توصي الأديان جميعاً في نصوصها التأسيسيّة بوجوب طاعة أولي الأمر، حكاماً وأئمّة وأساقفة وآباء وأزواجاً. وكما يبدو، للوهلة الأولى، أنّ مَن تنبغي الطاعة لهم هم من جنس الرجال، ولا مكان للمرأة قائدةً أو وليّة أمر في المجتمع. غير أنّ الأديان نفسها تضع قيودًا لهذه الطاعة قاعدتها أن لا يخالف الطائع مشيئة الله بطاعته لصاحب الأمر.
ليست الطاعة المرجوّة، إذاً، طاعة عمياء تلغي العقل فينساق الإنسان إليها كما تنساب مياه النهر وفق الطريق المرسومة لها. الطاعة المطلقة لأولي الأمر ليست سوى نوع من أنواع الجبريّة الخالصة التي تخالف ما درجت عليه الأديان من الحديث عن حرية المؤمنين وحرية الاختيار ومسؤوليتهم الشخصية، تالياً، عن أفعالهم وما تصنعه أيديهم.
الطاعة المفروضة بقوّة دينية أو اجتماعية أو سياسية تصبح قهراً للإنسان، وقمعاً لحريته، واغتيالاً لعقله، وإلغاءً لكل ما ميّز به الله الإنسان عن سائر المخلوقات. إما أن تكون الطاعة عن اقتناع تامّ وإما لا تكون. فالإنسان ليس أداةً صمّاء في أيدي أولي الأمر يتصرّفون بها كما يشاؤون، بل هو إنسان كامل الإنسانية ونظير لهم في المخلوقية. وليس أولو الأمر آلهةً أوامرهم مطلقة غير قابلة للنقاش، أو معبودين لا تجوز مخالفتهم في أي أمر.
بيد أنّ الله نفسه لا يفرض على الإنسان أن يطيعه قسراً. ترك له حرية الطاعة والعصيان. كلّم الله الإنسان بالعقل، ودعاه إلى قبول كلامه بالموعظة الحسنة، وأرجأ حسابه إلى اليوم الأخير تاركاً باب التوبة مشرّعاً يدخله المرء ساعة يشاء ويختار العودة إليه.لم يُلزمه بالإيمان به ولا بالخضوع لتعاليمه ووصاياه، ولم يجبره على اتّباع أوامره ونواهيه. الله يريد من الإنسان أن يأتي إليه بحريته وبإرادته الذاتية.
لكن المجتمعات العربية كافة لا ترى الأمر بمنظار الله بل بمنظار السلطة الاستبدادية المطلقة. فصاحب الدولة يفرض طاعته على الناس جبراً، والسلطات الدينية تفرض طاعتها على المؤمنين بالتهويل والتخويف من القصاص، والرجل يفرض طاعته على المرأة بذكورية استبدادية. يحتلّ الحكّام والقادة الدينيون والأزواج، كل في موقعه، عرش الله ويفرضون طاعتهم المطلقة على مَن هم دونهم.
غير أن ثمة في النصوص الدينية العديد من الآيات التي تضع شروطاً على طاعة العبد للعبد. فرسول المسلمين يقول: “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”، ويقول أيضاً: “لا طاعة إلا بمعروف”. المرء، إذاً، لا يسعه أن يتنصّل من مسؤوليته عن معصيته للخالق إذا أطاع أمر مَن يأمره بالمخالفة.
يتوسّل القديس بولس الرسول “فكر المسيح يسوع” ليتحدّث عن الطاعة، فيقول إنّ المسيح “أخلى ذاته واتّخذ صورة العبد. صار شبيهاً بالبشر وظهر في صورة الإنسان. تواضع، أطاع حتّى الموت، الموت على الصليب”. الطاعة، إذاً، تفترض التنازل والتواضع من أولي الأمر. المسيح الذي هو، وفق الإيمان المسيحيّ، الإله المتجسّد قد أطاع مقدّماً ذاته قرباناً على الصليب. لم يفرض طاعته بسلطانه الإلهيّ، بل بمحبّته الفائقة للبشر. الطاعة إما تكون بالمحبّة أو لا تكون. ولم يتّبع المسيحيون المسيح إلاّ حين رأوه معلّقاً على الصليب حباً بالبشر كافة. هكذا أولو الأمر منّا لن نطيعهم إلا إذا وجدناهم منقادين بالحبّ لا بسواه.
الأب جورج مسّوح – جريدة النهار 2012-02-15