كان واحداً من مجموعة شبان، فعلت بهم النعمـة فعلهـا. وفـي أحشائهـم، بنـت الغيـرة الرسوليـة أعشاشهـا.
وبهم قذف الروح شرارته، فأثمرت النهضة بواكير ثمارهـا، ورسمـت مسارهـا، وأخـذت شكلهـا.
كانوا مجموعة شبان متحركين، فصاروا، حركة النهضة والرجاء، صاروا حركة الشبيبة الأرثوذكسيـة.
لا يمكن ذكر الياس مرقص، دون ذكر مساهمته الكبرى في إطلاق المسيرة النهضوية الإنطاكية، عبر تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسية.
فأبونا الياس- أو مرسيل حينذاك- المترعرع على شواطىء اللاذقية، كتب لصديقه جبرائيل سعاده، عن حركة التقويم الأرثوذكسي التي يجب أن نؤسسها، في تطابق مذهل في التوقيت والمضمون، ودون أي معرفة أو تنسيق، مع جورج خضر الذي كتب إلى ألبير لحام، عن ضرورة تأسيس حركة أرثوذكسية، كي تستطيع أن تعيد إلى الأرثوذكسية نفحة الروح.
وبعد تكرسه في الحركة، وسعيه الدؤوب لنقل الكلمة المحيية، سلك أبونا الياس، طريق تكريس آخر، نحو الوسيلة النموذجية للتطهر، والبذل، وإحتضان العالم بالصلاة، فأعتزل، ليستقر مع أخوة له في هذا الدير مؤسساً، شركة رهبانية، رجالية، إفتقدتها كنيسة انطاكية لقرون، وليتحول معه دير الحرف، إلى واحة إشعاع روحي، ونهضوي، ونقطة إحتضان ومركز إستقطاب وتأثير في آلاف الشباب، والمؤمنين لأكثر من نصف قرن، ولا يزال.
– في الذكرى الأولى لغيابه، يجمعنا أبونا الياس، ونلتقي، لا لنلقي في شخصه شهادات في المبادرة، والإقدام، والتكريس للـه، والمحبة والخدمة، وسائر المواهب والفضائل التي تحلى بها، أو لإطلاق مواقف من المديح والثناء والشكر، ما طلبها يوماً، ولا سعى إليها، وحتماً، ، حيث يسكن الآن ملتحفاً النعمة، لا يحتاجها وإنما، لنستذكر اليسير مما عمل وعلم، فنقتدي بسلوكه ونتعظ من أمثولاته، التي نحتاجها،
وفيما يلي سأحاول تسليط الضوء، على بعض منها. –
مع أبونا الياس، يستوقفك، وبقوة هذا التزاوج الفريد بين مثال الراهب، المحافظ الملتزم بأمانة ودقة كليتين نظم الرهبنة وقوانينها وأصولها وآدابها، ومعاشرة الكتاب المقدس بلا إنقطاع ، والحياة الطقسية، والصلاة المستمرة، وبين التأثير النهضوي الكبير، الذي أحدثه خارج الدير، فهو من قلة، إستطاعت أن تجعل من جدران الدير، ألواحاً من زجاج، تنقل حضوره وشهادته ومحبته إلى أرجاء العالم، فهو بلا شك ظاهرة مواهبية فريدة على هذا الصعيد.
وفي ذلك تعبير عن قناعته الراسخة، أن الرهبنة، ما هي إلا فعل نهضة، حيث كتب:
« لم أدخل الدير من نفسي، بل كانت هناك قوة خفية تدفعني وتقودني وترتب لي كل شي، هي بلا شك القوة المنبعثة من ضمير النهضة الداخلي، قوة منطق النهضة الداخلية ،هي بالنتيجة إرادة اللـه…». «لذلك نستطيع القول بأننا أنا ورفاقي الرهبان والراهبات مهما كان عددنا ضئيلاً ومحاولتنا متواضعة، لا نختبر الرهبنة بأسمنا ولحسابنا أو بإسم حركة الشبيبة الأرثوذكسية، ولحسابها وحسب بل بإسمكم جميعاً، بإسم الكرسي الأنطاكي ونهضة اللـه فيه». –
لا بد، أن تستوقفك أيضاً، عند الياس مرقص اللغة التي يكتب ويخاطب بها، ففي حديثه عن اللـه، لا تجد عبارات التخويف، والترهيب والإدانة، والخضوع، بل هي لغة، تشدد قبل أي أمر آخر، على إظهار محبة اللـه، وإحتضانه وإفتقاده للبشر، فأنت تأتي إلى الرب، لتلبي بمحبة، دعوة مُحبة، بما يفوق الوصف، وأمام حضرة اللـه، أنت تتوب، أي تتحرك بالحب والإنسحاق، لا خوفاً من حساب، أو رهبة من دينوية، بل إنطلاقاً من الحب، والحب وحده، فالحب والخوف لا يلتقيان أي لا حوف في المحبة، ومما كتب:
«الكنيسة بالضبط ليست وصايا وفرائض، بقدر ما هي محبة الرب وإلتماس وجهه…» « والفضيلة ليست في الأعمال، بل في حركة الحب التي ضمن الأعمال، هي، من خلال الأعمال، في الإتجاه نحو الرب والإلتصاق به والحنين إليه».
هذه اللغة، وهذا الإسلوب، المعبر بشكل خاص عن وعيِه الأكيد وفهمه الكبير، للإلتزام المسيحي، النابع من الحرية، في المسيح، التي تنتج وحدها شخصية ملتزمة ومسؤولة. ويظهر هذا الأمر جلياً في كلامـه عـن الطاعـة حيـث يقـول:
« أن الطاعة السليمة ليست خضوعاً لسلطة، فالطاعة شيء والخضوع شيء آخر، والخضوع يشوه الإنسان ويحوَّله إلى «موضوع» بدلاً من « ذات » إلى « شيء » بدلاً من «شخص» أما الطاعة فتصدر من الداخل وتقوم على الولاء والمحبة الداخلية للـه…»
فمن يطيع خارجياً، دون أن يكون وعيه ووجدانه الذاتي مستنيرين بالطاعة للـه والمحبة، ليست طاعته طاعة بل خضوعاً. ثم أن الطاعة السليمة لبعضنا البعض ليست طاعة عمياء إنما تقوم في حدود الوصايا، والثقة المتبادلة في خط إرضاء اللـه والفهم الروحي والإتضاع والروحانية الواحدة. ويضيف علما، أنه على الأب الروحي أن يساعدنا على ممارسة الطاعة بهذه الروح».
أما الصفة، الظاهرة البارزة عند أبونا الياس، فيما كتب أو علم أو تصرف هو هذه الدعوة المستمرة إلى الفرح وعيشه وإختباره، حتى تظن نفسك معه أنك واقف أمام كتلة من الفرح، المعبر عنه بروح الدعابة والحبور، والمرح الراقي، الوقور، الذي لم ينقص من هيبة الراهب فيه، ووقاره وروحانيته، وجديته ذرة واحدة. «فالحزن مفسدة النفس» كتب أبونا الياس، والرب يدعون إلى الفرح كل حين، نحن المبشرون بفرح عظيم، فلماذا نغرق في الحزن، ولا نغرف من الفرح، فرح الإنتصار على الموت، وأي معنى لتوبتنا ورجائنا و وتطهرنا، إن لم نعشه بالفرح الذي يليق به.
كلمات ومواقف تلتقي مع ما كتبه الأب ألكسندر شميمان: « وكانت المسيحية، منذ بدايتها، إعلاناً عن الفرح الوحيد الممكن على الأرض»(…)
لقد بشرت المسيحية بفرح جديد، شامل، فحولت النهاية إلى بداية. من غير الممكن فهم المسيحية من دون إعلان هذا الفرح، وبما أن الكنيسة هي فرح- فرح وحسب- إنتصرت في العالم، ولكنها خسرت العالم عندما خسرت ذلك الفرح، عندما كفت عن الشهادة بثقة، لذلك الفرح». و أيضاً ألا يلتقي، كبيرنا الياس مرقص، بدعوته وسلوكه، مع القديس الفرِح ساروفيم دي ساروف، الذي كان يردد دائماً « يا فرحي لقد قام المسيح». أبونا الياس، كان يعيـش فـرح الإنتصـار مـع القائـم مـن بيـن الأمـوات. أبونا الياس كان داعية ليسوع المنتصر على الموت، لـذا كـان داعيـة الفـرح. أبونا الياس، نحن إجتمعنا، لنصلي معك ولك، ولنستنير من سيرتك، ونستفيد من مسيرتك، ولنعترف بما تعرف، أننا جميعاً نحتاج الى صلواتك.