وادي النصارى

الأب جورج مسّوح Wednesday April 4, 2012 180

اسمه على الألسنة وفي الأفئدة “وادي النصارى”. اسمه على الأوراق الرسميّة “وادي النضارة”. دُعي “وادي النضارة”، لطبيعته الخلاّبة، أيّام الوحدة بين مصر وسوريا. الوادي الذي يضمّ حوالى ثلاثين قريّة مسيحيّة، يصل عددها إلى أكثر من ستّين قرية إذا حسبنا ما يتاخمه من قرى تقع خارج جغرافيّته، يتبع إداريًّا لمحافظة حمص. وغالبيّة سكّانه الساحقة أورثوذكسيّون يتبعون، مع أبناء كنيستهم في صافيتا ومحافظة طرطوس، لأبرشيّة عكّار.

يرقى الوجود المسيحيّ في الوادي إلى القرن الأوّل الميلاديّ. وثمّة كنائس وآثار قديمة تشهد على عراقة المسيحيّة في هذه المنطقة، وأهمّها دير القدّيس جاورجيوس (الحميراء) الذي يتوسّط الوادي بالقرب من قلعة “حصن الأكراد” التي بناها الفرنجة الصليبيّون. وقد ذكر المؤرّخ العربيّ الطبريّ هذا الدير تحت اسم “سيّدنا الخضر أبو العبّاس”، وهو ما زال محجّة يقصدها المسلمون، سنّة وعلويّون، من أبناء الجوار للتبرّك وإيفاء النذور وتقديم الأضاحي في المناسبات الدينيّة.

منطقة “وادي النصارى” مشهورة، منذ أكثر من قرن، بكثرة المثقّفين والأدباء والشعراء والحائزين على شهادات جامعيّة. وهم غير طائفيّين، ولم يشهدوا نزاعات مع محيطهم غير المسيحيّ. ولا يجد التعصّب سبيلاً إليهم، فتراهم يفاخرون بعروبتهم وبتاريخهم المشترك مع المسلمين. وغالبيّتهم تؤمن، منذ عصر النهضة العربيّة، بالعلمانيّة عبر تمسّكهم بالقوميّة العربيّة أو السوريّة، أو بالشيوعيّة والاشتراكيّة. وهم يحتلّون مواقع هامّة في الأحزاب ذات الطابع العلمانيّ. واللافت أنّ معظم أسمائهم لا تدلّ على انتماءاتهم الطائفيّة، وإن كانوا متمسّكين بإيمانهم المسيحيّ، بل هي أسماء عربيّة مشتركة مع المسلمين، حتّى إنّنا لنجد في قرية مسيحيّة، ما لا يمكن أن نجده في قرية مسلمة، شخصين الأوّل اسمه “علي”، والثاني “معاوية”!

حال المسيحيّين في وادي النصارى هو حال مواطنيهم السوريّين في كلّ أرجاء وطنهم العزيز. فأهل الوادي منتشرون في المدن الكبرى كلّها، ولا سيّما في دمشق وحمص، وأصابهم ما أصاب أهل حمص. وقد اضطرّوا، للحفاظ على سلامتهم، إلى مغادرة منازلهم في أحياء حمص، وبخاصّة الأحياء القديمة منها، واللجوء إلى قراهم مع بعض القاطنين في حمص من غير أبناء الوادي. والحقّ يقال إنّهم تركوا منازلهم خوفًا من المصير القاتم، وليس صحيحًا أنّ ثمّة تطهيرًا عرقيًّا قد مورس ضدّ المسيحيّين في حمص كما ورد في بعض التقارير والتصريحات المغرضة.

خشيتنا، في الظروف الحاليّة التي يشهدها الوطن السوريّ، أن يتمّ إقحام منطقة “وادي النصارى” في أحداث طائفيّة. فأهل المنطقة كلّهم، سنّة وعلويّون ومسيحيّون، لا يشاؤونها ولا يسعون إليها. ولكن ما يجري من حواجز مسلّحة متنقّلة، وتدقيق في الهويّات على أساس طائفيّ ومذهبيّ، وعمليات خطف وقتل، واتّخاذ رهائن للابتزاز أو للتبادل، يقلق أبناء المنطقة الحريصين على النسيج الوطنيّ الواحد، وعلى استمرار المودّة والألفة التي سادت العلاقات بينهم على مدى قرون عدّة.

رجاؤنا أن يقهر أهل الوادي الفتنة ويئدونها في مهدها. فما يجمع أهل مرمريتا والحواش وحب نمرة المسيحيّين، وأهل تلّ كلخ وقلعة الحصن السنّة، وأهل جبال العلويّين من إيمان بالحياة المشتركة ووعي بالمواطنة الحقّ، سيقضي على العازفين على أوتار الطائفيّة والمذهبيّة. والسلام لكم يا أهل السلام.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،4 نيسان 2012

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share