هيمنة دينيّة على الدولة والمجتمع

الأب جورج مسّوح Wednesday May 23, 2012 125

ليس في هيمنة رجال الدين، مسيحيّين ومسلمين، على المشهد الوطنيّ والسياسيّ والأمنيّ والثقافيّ والفنّيّ، وحتّى الدينيّ، ما يطمئن المواطن إلى غد زاهر. فمَن يطلّ منهم على وسائل الإعلام، وبخاصّة الشاشات التلفزيونيّة، معظمهم يمتلكون خطابات تحتكر الله ورسله وأنبياءه، وتحصر الحقّ الإلهيّ بهم وبأتباعهم، وترمي مَن يخالفهم الرأي بالكفر أو بالعهر، وتهدّدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.

بات الخطاب الدينيّ يثير الخوف والهلع، هو الذي يدعو، روحًا ونصًّا، إلى الرحمة والسلام. بات يثير القلق والاكتئاب، هو الذي يعلي من شأن السكينة والفرح. بات يرينا خطايا الناس وأسواءهم، هو الذي يُفترض به إرشادهم وهدايتهم إلى سلوك طريق التوبة. بات يبعد الناس عن الله بدلاً من أن يقرّبهم إليه. بات يبشّر بالبغض والكراهية عوضًا عن المحبّة والاحترام. بات ينذر بالفتنة والاقتتال بين الإخوة في الدين أو في الوطن أو في الإنسانيّة، مهملاً أنّ “الفتنة أشدّ من القتل”، وبخاصّة حين تندلع في غير مكانها وزمانها.

بات الخطاب الدينيّ يخلو من آيات الرحمة وأسماء الله السمحة، غاب الله الرحيم والكريم والتوّاب والغفّار والصبور… وزاد الاستشهاد بالآيات القتاليّة التي تدعو إلى قتال المشركين والذين يقاتلون المؤمنين، ولكن في سياق الاقتتال الداخليّ. فعوض المشركين الذين تقصدهم الآيات، حلّ محلّهم أبناء الدين الواحد والمذهب الواحد أحيانًا. كان التكفير مقصورًا على فئة المشركين، ثمّ امتدّ لدى بعضهم ليطال أهل الكتاب، وانتهى لدى بعضهم الآخر إلى جواز تكفير مَن يخالفهم في الرأي مع مماثلته لهم بالدين.

من هنا تبدو هيمنة رجال الدين وخطابهم على الساحة بكلّ ميادينها قاتلة للروح المدنيّة. والكلمة أشدّ وطأةً من السيف، وبخاصّة حين يكون المتلقّي جاهزًا، عن تعصّب أعمى وعن جهل أعمّ، لتبنّي مضمون الخطاب وتنفيذه من دون أيّ إعمال للعقل أو للقلب. فما بالك إذا أضيف إلى قناعات المتلقّي الخطاب أنّ صاحب الخطاب معصوم عن الخطأ أو عن المحاسبة، لمجرّد كونه يحمل صفة “رجل الدين”؟

يصبح رجل الدين أكبر من مؤسّسات الدولة كافّة. يعطي رأيه في كلّ شيء. يحتلّ مواقع السياسيّين من رؤساء ووزراء ونواب. يحتلّ مواقع القضاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يعطي أحكامًا قاطعة لا تخضع للاستئناف أو للتمييز. كلمته تصبح أمرًا إلهيًّا لا يسع أحدًا أن يعصيه. ينصّب نفسه مراقبًا عامًّا على سلوك الناس وتصرّفاتهم. يعيّن نفسه وصيًّا شرعيًّا على المجتمع القاصر من دون احترام للتنوّع والتعدّد. ينظر في المرآة ويقول لنفسه: سبحاني ما أعظم شأني، أنا المنقذ الناس من الضلال… بكلمة، هو يُبطل العقل ويلغيه لصالح عقده الدفينة الظاهرة.

الإساءة إلى ديانة من الديانات لا يمكن أن تأتي من خارجها، فالمسيء لا يمكن أن يسيء إلى سوى نفسه. الإساءة التي تلحق بالديانة مصدرها من داخل، من تصرّفات وسلوكات العديد من رجال الدين الذين يستغلّون مواقعهم وقيافاتهم، والذين يستبيحون المنابر لنشر الجهل وبثّ روح الفتنة والتقاتل الأخويّ. فمَن يرغب في كفّ الإساءة عن إيمانه وديانته، فليعفف لسانه عن كيل التهم واستنهاض الهمم وإدانة الآخرين. إلهنا، كافّة، إله المحبّة والرحمة، فأحبّوا وارحموا مَن في الأرض يحببكم ويرحمكم مَن في السماء.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،23 أيار 2012

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share