لِمَن الكلمة الفصل؟ أللعقل أم للإيمان؟

mjoa Tuesday June 12, 2012 78

نبدأ بتحديد معنى كلّ من اللّفظتَين اللّتَين نستعملهما.

العقل، ما العقل؟ هو قوّة الدّماغ ووظيفته. يشتمل على الإدراك المنطقيّ والحدسيّ، ويضمّ كلّ العمليّات الّتي تتيح للإنسان تعاطي نفسه والآخرين والعالم بإدراك وفهم وتصوّر لما يجري، على صعيد المحسوسات والنّفسانيّات معًا؛ ومن ثمّ بتكوين فكرة وموقف وخطّة ومبادرة لمقاربته أو لمعالجته بما يؤمّن للإنسان، بإزاء مَن أو ما يتعاطاه، تفاعلاً يوفِّر له الدّخول في علاقة يراها موافقة له معه، أو إشرافًا أو تحكّمًا به؛ ومن ثمّ اختزان ما نجم عن تلك العمليّات، وتعديل ما لزم منها، عند الطّلب، في الذّاكرة؛ وتطويرها وإضفاء أجنحة عليها، تتيح لها أن تجوب رحاب المخيِّلة، فتسمو بها فوق ما هو واقعيّ، أو تفسح للإنسان، في المجال، لأن يَفرض أو يُسقط على ما هو موجود، ما هو من ابتداع الخيال؛ بحيث يتسنّى للإنسان حتّى لأن يغيِّر ما هو طبيعيّ، من خَلْق الله، إلى ما هو غير طبيعيّ، وليس من خَلْق الله! العقل، وفق هذا المسار، قابل لأن يتحرّك كما في اللاّمحدود، ضمن محدوديّة الإنسان، استنادًا إلى عالم الخيال، من ناحية، وإلى إحداث ارتباطات دماغيّة جديدة واعية وغير واعية، تكاد تكون غير محدودة، بين المدارك القائمة، في إطار العمليّات المنطقيّة والحدسيّة للعقل البشريّ، من ناحية أخرى!


     هذا يجعل للعقل، في عالم الإنسان، طاقات ابتداعيّة هائلة، يتراوح مداها بين المساهمة في تفتّح وإنماء قابليّات خليقة الله في الأرض، ومن ثم الإفادة منها، على نحو بديع، والتّدمير الذّاتيّ للإنسان وعالمِه، إذا ما أُتيح له ذلك! السّؤال الّذي يطرح ذاته هنا هو: ما الّذي يدفع العقل إلى السّير في هذا الاتّجاه أو ذاك؟ لا يسيِّر العقل ذاته بذاته. مهما كانت هائلةً طاقةُ العقل فإنّها تبقى غاشمة، آليّة، بمعنى، وتحتاج إلى ذات تسوسها! ومَن يسوسها قائمٌ خارجها وضعيًّا. لذا نبحث، في الموضوع، أوّلاً، لا عن قوى العقل، بل عمّن يقبض على مِقْود العقل! هذا هو مَن يعطي العقل وجهة سير، ومن ثمّ قيمة إنسانيّة حقّ! في هذا المِقْود يقوم العقل، وما العقل سوى لغة هذا المِقْود، الّتي تترجم حركته الدّاخليّة إلى هنا أو إلى هناك! لذا يستتبع هذا السّؤالَ سؤالٌ آخر: ما طبيعة هذا الّذي يمسك بهذا المِقْود؟ عن أيّ مِقْود نتكلّم؟

     أمّا الإيمان فهو الإيمان بالرّبّ يسوع المسيح، له المجد. ليس الإيمان عملاً عقليًّا، رغم أنّ للعقل مساهمةً في عمل الإيمان، كما للتّربة مساهمة في الحياة النّباتيّة. ينتمي الإيمان إلى كيان الإنسان، إلى قلبه، إلى أناه. الإيمان هو الهوّيّة الدّاخليّة الأعمق للإنسان. هو مضمون أناه، كما النّور مضمون العين. عينٌ تَرى ملؤها النّور حتمًا. العين المظلمة لا ترى ولو كانت موجودة. لا ترى أي تكون آثمة. كلّ الإنسان، إذ ذاك، يكون مظلِمًا. لذا قيل: “إن كانت عينك شرّيرة فجسدك كلّه يكون مظلِمًا” (متّى 6: 23). جسدُك أي كلّك. النّور الّذي ينبثّ، بالإيمان بالرّبّ يسوع، في الإنسان كلّه؛ في كلّ خليّة من خلاياه، في كلّ تفصيل من تفاصيل سلوكه، في كلّ حركة من حركات نفسه، في كلّ هباءِ فكرٍ هائم في روحه. الإيمان هو حياةُ حياةِ الإنسان. “الحياة لي هي المسيح”، قال الرّسول بولس. حياةُ حياة الإنسان، أو إسُّه، كما النّور حياةُ العين، والنّغم حياةُ الأذن، والطِّيْب حياة الأنف.

     على هذا كان الإيمان بالرّبّ يسوع نورَ العقل، المِقْودَ الّذي فيه يسوس الإنسانُ عربةَ العقل. يسوع للعقل هو ما خُلِقَ العقل لأجله. لا مسافة بين الرّبّ يسوع والإيمان بالرّبّ يسوع في قلب الإنسان. الإيمان بالرّبّ يسوع هو يسوع فاعلاً بالرّوح في قلب الإنسان، ومن ثمّ في الإنسان كلّه. العقل، إذ ذاك، يشكّل أداةً، لغةً تؤدّي خدمةً لخادم الرّبّ يسوع. العقل في خدمة الإيمان! بالإيمان يُمسي العقل بهيًّا مفرِحًا بنّاءً سلاميًّا، لمجد الله وسرور البشريّة! وبلا إيمان يصير القلب مظلِمًا، شرّيرًا. إمّا الإيمان وإمّا الشّرّ! لا حلول وسطيّة ولا حياد! لا شيء بينهما. ثمّ ظلمة القلب وشرُّه يجعلان العقل أداة ظلمة وشرّ!

     لذا كانت المقابلة بين العقل والإيمان خطأ شائعًا، لا تكافؤ فيها. إمّا هذا وإمّا ذاك. أنت لا تختار أحد الاثنين كما لو كانا نقيضَين. لا خيار بين العين والنّور. العين بغير نور ما قيمتها؟ والنّور بلا عين كيف يتجلّى في عالم النّاس؟ إذًا النّور والعين هما بَرَكةٌ من فوق، والعين مبارَكة بالنّور. على هذا، العقلُ عطيّةٌ والإيمان عطيّةٌ، والعقل مبارَك بعطيّة الإيمان، وإلاّ يُلقي الإنسانَ في جبّ الهلاك!

     فإذا ما كان الكثيرون، اليوم، يقدّمون العقل على الإيمان، ويحكمون على الإيمان بالعقل، ويستغنون بالعقل عن الإيمان، ويعتبرون المؤمنين كأنّهم ناقصو العقل، متخلِّفون؛ إذا ما كان الكثيرون يفاخرون بثمار العقل ويستعيبون الإيمان والتّقى؛ إذا ما كانوا يتهافتون على ما هو من العقل ويتخلّون عمّا هو من الإيمان؛ إذا ما كانوا يعتبرون ما للإيمان رجعيّة، وما للعقل تقدّمًا؛ إذا ما عملوا على إطاحة الإيمان بالعقل؛ إذا ما فعلوا ذلك كلّه وأكثر فلأنّهم، أوّلاً، يجهلون ما يعملون. وما يجهلون لأنّهم لا يعرفون، بل لأنّهم أحبّوا الظّلمة أكثر من النّور، وآثروا أهواءهم على الحقّ. أُغووا بأنفسهم، واغترّوا بذواتهم، فعبدوا المخلوق دون الخالق! من هنا جهلُهم! ليس أنّهم لم يعرفوا، بل لم تكن لهم رغبة في أن يعرفوا! مَن اشتاق إلى معرفة الحقّ ما حرمه الله فرصة معرفة الحقّ ولو كان في عمق الصّحراء! لذا جعلهم الله، في ظلمة قلوبهم، يصدّقون الكذب ويعتبرونه سرّ المعرفة!

     عالمنا يرتع في جهل مروّع! ولو شئتَ أن تميِّز الجهلة من العارفين، لألفيت الجاهل يستخفّ بالإيمان بالرّبّ يسوع ويتهكّم عليه ويقارعه بحجج العقل، كأنّ الإيمان موضوع عقل! ماذا تقول عمّن يكلّم آلة صمّاء ويسيِّدها على نفسه والعالم ويعبدها؟ أما تقول عنه إنّه خرج عن طوره؟! قال الجاهل في قلبه ليس إله! كلُّ مَن قدّم العقل على ما عداه؛ كلُّ مَن جعل همَّه عقلنة العالم والتّنشئة على ما للعقل وكأنّه القيمة الّتي ما بعدها وما فوقها قيمة؛ أعطى الدّليل على أنّه يقدّم أهواءه على محبّة الحقّ ويعبد نفسه دون الله ويمتشق عقلَه سيفًا يريد أن يغزو به العالمين؛ وإذ يجعل كلّ هواه في سيفه يصير كلُّه سيفًا، ومن ثمّ على صورة سيفه! وما هذه إلاّ الصّنميّة عينها! والمآل أنّ الصّنم يشيّئ صاحبه، يقتله! أليس أنّ مَن يأخذ بالسّيف بالسّيف يؤخَذ؟

     العقل، في مناخ كهذا، يصير، بالأكثر، ولا أقول كلّيًّا، لأنّ ثمّة، بعدُ، مَن يمجِّدون الله بثمار عقولهم؛ العقل، في مناخ كهذا، يصير، بالأكثر، رمزًا للشّكّ بالله والإثم وعنوان عبادة الذّات والخدعة الّتي يشجِّع الشّرّيرُ الإنسانَ على الخوض فيها ليصير إلهًا من صُنعِ نفسِه؛ العقل، في مناخ كهذا، يصير أداة لحرمان الإنسان معرفةَ الله، ومن ثمّ لحرمانه تحقيقَ ذاتِه كإنسان، وتحويلِه مِسخًا، ودفعِه إلى تدمير العالم والانتحار!

     أكثر المؤسّسات المُنشأة في العالم هياكلُ لعبادة العقل! لذا تروِّج للجهل الكيانيّ باسم المعرفة الظّواهريّة، ومن ثمّ للحرب باسم السِّلْم وللموت باسم الحياة! الجهلُ أفظع الرّذائل! الجهل قاتلٌ صاحبَه!

     عفوًا! ليس هذا كلامًا للعاقلين، بل للقطيع الصّغير “من المجانين”! القدّيس أنطونيوس الكبير قال مرّة: يأتي وقت يجنّ فيه النّاس؛ فإن التقوا عاقلاً قالوا: أنت مجنون! هوذا الآن الوقت!

     “إنسان الرّوح مجنون من كثرة إثمِكَ… يا إسرائيل” (هوشع 9)!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share