الغيرة المكروهة

mjoa Wednesday July 18, 2012 85

“فقال (ملاك الرب لإيليا) اخرجْ وقفْ على الجبل أمام الرب. فإذا الرب عابر وريح عظيمة وشديدة تصدّع الجبال وتحطّم الصخور أمام الرب، ولم يكن الرب في الريح. وبعد الريح زلزلة، ولم يكن الرب في الزلزلة. وبعد الزلزلة نار، ولم يكن الرب في النار. وبعد النار صوت نسيم لطيف” (سفر الملوك الأوّل 19، 11-12).

نستحضر، الآن وهنا، سيرة القديس إيليا النبي قبل يومين من عيده كي نكتشف أي إله هو إلهه. إيليا، النبي الذي تكرّمه الديانات التوحيدية الثلاث، أخذته غيرته إلى حدّ التطرف والغلو وإعمال السيف في رقاب كهنة البعل وخدّامه. لكن الله أظهر له نفسه لطيفاً رحيماً، فهدّأه وردّه إلى جادّة الصواب. فتاب إيليا إلى ربّه، وذهب إلى البرّيّة بحثًا عن السكينة والتأمّل، ولم يعد البتّة إلى غيرته السابقة.

الغيرة صنفان: غيرة ممدوحة تعتمد نهج التذكير والتنبيه والنصيحة والموعظة الحسنة، وغيرة مكروهة تعتمد الإكراه سبيلاً إلى فرض شريعة الله مهما كان الثمن. ولما كانت الديانات تقوم أساساً على احترام الحرية البشرية كونها القيمة الوحيدة التي تميز الإنسان عن سائر المخلوقات، فإنها لا يمكنها أن تدعو إلى التطرف وقمع الحريات بدعوى الغيرة على تطبيق شرائعها والنأي عن نواهيها.

بيد أننا نحيا اليوم يقظة لغيرة ممقوتة يتبناها بعضهم لفرض ما يرونه حسن الالتزام بمقتضيات الشريعة. ففي البلدان التي شهدت انقلاباً في مشهدها السياسي والاجتماعي ظهرت جماعات ادّعت أنها هيئات “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. هذه الجماعات نصّبت نفسها وصية على المجتمع ووليّة على الناس، تقضي وتقاصص وتقتل وتشرم الآذان، وتفجر النوادي والمحال التي تبيع الخمور، وتهدم الضرائح، وتفرض الحجاب على النساء والفتيات…

“ولو شاء ربك لأمن مَن في الأرض كلّهم جميعاً. أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” (سورة يونس، 99). ويقول الشيخ وهبة الزحيلي في تفسيره الوجيز تعليقاً على هذه الآية: “ولو شاء ربّك أيها الرسول، لخلق الإيمان، وصدّق برسالتك الناس كلهم مجتمعين في وقت واحد، ولكنه سبحانه لم يفعل، ليكون الإيمان عن اختيار، وبمشيئة الله تعالى. أفأنت تجبر الناس على الإيمان بما لم يشأه الله منهم، حتى يكونوا مؤمنين مصدقين برسالتك، فليس ذلك بمقدورك، وما عليك إلاّ البلاغ”.

الإيمان ومقتضياته الشرعية يقومان، إذاً، على احترام الحرية البشرية، وعدم إلزام الناس بما يخالف قناعاتهم وخياراتهم. وإذا كان النبي نفسه يخضع لأمر الله بعدم إكراه الناس على شيء، فالأحرى أن يلتزم المتديّنون هذا الأمر الإلهي، فلا يزايدون بغيرتهم وغلوّهم على النبي الذي يؤمنون بأن الوحي قد أنزل إليهم به. وإذا كان النبي هو “الأسوة الحسنة” فليقتدوا به، هو الذي قال له الله بحسب كتابهم: “فذكّر إنما أنت مذكّر. لست عليهم بمصيطر” (سورة الغاشية، 21-22).

“اللطيف” اسم من أسماء الله الحسنى في الإسلام. الغيرة يمكن أن تكون لطيفة فتؤتى ثمارها الطيّبة، ويمكن أن تكون متعنتة تنفّر الناس بدلاً من أن تحببهم بالله. فكونوا لطفاء كما أنّ الله لطيف. كونوا كالنسيم اللطيف في هذا القيظ الحارق.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share