أبناء الرّجاء… لا اليأس!

mjoa Friday September 14, 2012 70

لماذا الأمراض؟ لماذا الحروب؟ لماذا الموت؟ لماذا الظّلم؟ ثمّة مَن يحسب أنّ معاناة الإنسان، لا سيّما البريء، دليل على أنّ الله غير موجود؛ وإذا كان موجودًا أنّه غير فاعل؛ وإذا كان فاعلاً أنّه ظالم؛ وإذا كان ظالمًا أنّه لا قيمة لوجوده!

     ما أكثر الدّموع، اليوم! أقول “اليوم” لأنّي فيه! البارحة، أيضًا، كانت دموع، لكنّ الماضي قرأت عنه، سمعت به، وشتّان ما بين السّمع والمعاينة، ما بين خبر الدّمع وخبرة الدّمع! الدّموع تملأ القلب؛ ولأنّ القلب يبكي يعرف ما يعانيه الباكون! يعرفه بلحمه، بحسّه! في نهاية المطاف، لا معرفة حقّانيّة، ولا معرفة كيانيّة، إلاّ بالقلب الموجوع! الوجع يجمع؛ بالأحرى يعطيك فرصة أن تجتمع إلى النّاس، أن تصير واحدًا وإيّاهم بما تعاني ويعانون! يتألّمون؟ أنت، أيضًا، تتألّم! يمرضون؟ تمرض! يكابدون مشاق الحروب؟ تكابد! يذوقون الموت؟ تذوقه! يُظلَمون؟ تُظلَم! ولكنْ، ألِوحدة الألم من قيمة؟ قد تدفعك وحدة الألم إلى الهروب، بما أوتيت من أسباب، كما لتنجو بنفسك، وما تنجو! قيمةُ وحدة الألم أنّه مُعطى لك فيها أن تبكي، لا فقط مع النّاس، بل عليهم! لك أن تعزّيهم، ولو كنت موجوعًا، أو، بالأحرى لأنّك موجوع! لا تبقى في مستوى الانكباب على معالجة أوجاعك بذاتك! هذا ربّما تأتيه بشكل أو بآخر، بقدر أو بآخر! الفرصة الّتي أتكلّم عليها هي أن تجعل نصب عينيك أن تعزّي الموجوع لأنّك موجوع مثله، فمتى فعلتَ عزّيتَ، وتعزّيتَ بالتّعزية الّتي عزّيتَ بها! هذا ينقلك من صعيد وحدة الألم إلى صعيد وحدة الكيان، وحدة القلب! تصير وإيّاه واحدًا بالحبّ! وبالحبّ تقوى على الأمراض بالأمراض، والحروب بالحروب، والموت بالموت، والظّلم بالمظلوميّة! أتعلمُ لماذا؟ لأنّ الله محبّة! وبالمحبّة كانت الحياة وتبقى!

     إذًا، الأمراض والحروب والموت والظّلم ليست أسبابًا لنكران وجود الله؛ بل، بالحريّ، لإثبات وجوده! لماذا؟ لأنّها كلّها أسباب للوحدة بين النّاس، بالحبّ، طالما الإنسان قلب! ولكنْ من أين أتتنا؟ لماذا أصابتنا؟ لأنّنا لم نعد نحبّ! صار كلّ واحد منّا منصرفًا، تلقائيًّا، عن محبّته للنّاس إلى محبّته لنفسه! هذا شبه معمَّم! تَغرَّبنا عن المحبّة، فكانت النّتيجة أمراضًا وحروبًا وموتًا وظلمًا! أساس الأمراض علّة القلب! القلب دم وحبّ! هل كان يمكن للإنسان أن يمرض لو كان قلبه، وهو مضخّة الحياة، معافى؟ القلب حبّ في مستوى الكيان، وحياةٌ في مستوى النّفس والجسد! لو كان ملءُ القلب حبًّا أكان الإنسان يحارِب الإنسان؟ أكان يموت؟ الحبّ أقوى من الموت! أكان يَظلم؟ مستحيل! بالمحبّة خَلق الله العالمين، وخَلق كلّ شيء صالحًا وخلقه إلى الأبد!

     فلمّا لم نَعُد نحِبّ وسادت الأمراض والحروب والموت والظّلم، وكان لا يمكن إلاّ أن يستمرّ الإنسان باحثًا عن فردوس الحبّ الضّائع، لأنّ طبيعته قلب، صار لا بدّ له من أن يستعيد الحبّ ليستكين، ولكنْ، للأسف، بما ساد، بالموجود، بما أتاه الإنسان على نفسه، بالأمراض والحروب والموت والظّلم! الشّدّة باتت هي فرصة الاتّحاد بالنّاس! فرصة استعادة الحبّ! فرصة الحياة! المحبّة لم تعد تأتي الإنسانَ عفوًا، كما في البدء، بل بشقّ النّفس! شِركةُ المعاناة باتت المجالَ الأوحد للحبّ! الصّليب صار ضرورة ليأتي الفرحُ إلى كلّ العالم! الصّليب صار، على إيلامه، رمز الحبّ، والمدخل الجديد إلى الحياة الجديدة! سمّ الحيّة صار ترياقًا للحياة… بالحبّ!

     لهذا تجسّد ابن الله…

     تجسّد لأنّ الله محبّة. المحبّة حملته على الاشتراك فيما للإنسان لأنّه خَلَقه، أصلاً، قلبًا على صورته! هذا لأنّ المحبّة شركة! كان لا بدّ لابن الله أن يتجسّد! تألّم الإنسان أو لم يتألّم، كان لا بدّ لابن الله أن يتجسّد! وتجسّد ابن الله ليتيح للإنسان أن يصير على مثاله، كلُّه محبّة! هذا معنى أن يصير الإنسان مثلَ الله! هذا نسمِّيه تأليهًا! لا بمعنى الإشراك في جوهر الله! نحن لا نُشرِك في جوهر الله، نحن نشترك في ما ينبعث من جوهر الله، في النّور غير المخلوق لله، في محبّة الله، في الحياة الأبديّة! كما نشترك في نور الشّمس دون أن نشترك في جوهر الشّمس، لأنّنا خُلقنا ولنا عيون تحيا بنور الشّمس، كذلك نشترك في نور الله، في محبّة الله، في حياة الله لأنّ الّذي خلقنا، خلقنا ذوي قلوب تحيا بنور الله ولا تحيا بغيره!

     وكان أن سقط الإنسان! سقط في عشق الذّات! تغرّب عن الحبّ!…

     بنتيجة ذلك صار لا بدّ لمحبّة الله أن تتّخذ منحى جديدًا. في البدء كانت المحبّة خالقة. في السّقوط صارت المحبّة مصلوبة. وما كان ممكنًا أن تكون إلاّ مصلوبة لأنّها محبّة، فالمحبّة تتأنّى وترفق ولا تقبِّح ولا تحتدّ ولا تفرح بالإثم وتحتمل كلّ شيء وترجو كلّ شيء وتصبر على كلّ شيء (1 كورنثوس 13)! طبعًا بقيت المحبة خالقة، لأنّ الخلقَ طبيعتُها في كلّ حال، ولكنْ اضطرّتها حالة الإنسان الطّارئة لا فقط لأن تقتبل الصّليب بل لأنْ تجعل الصّليب أداة للخلْق أيضًا! من قِبل الرّبّ كان هذا وهو عجيب في أعيننا! وحده الرّبّ الإله كان قادرًا على أن يفعل ذلك وقد تمّمه على الصّليب: “قد تمّ” قال، ثمّ أسلم الرّوح، لا فقط علامةً لكونه ذاق الموت، بل لكونه، بالأحرى، أعطى البشريّةَ، على الصّليب، روحَ الحياة!

     في لغة الكنيسة، السّقوط في حبّ الذّات نسمِّيه خطيئة، والخطيئة، أساسًا، واحدة؛ ثمّ استعادة الحبّ والرّوح والحياة نسمِّيه خلاصًا! وكان المخلِّص يسوع له المجد!

     هكذا يشاء الرّبّ الإله للجميع أن يخلصوا، أن يتقدّسوا. على هذا يمكن تحديد حياة الإنسان على الأرض بكونها كامل جملة الفرص الّتي يوفِّرها الرّبّ الإله له للخلاص، لاقتناء نعمة الله، للتّملّؤ من محبّة الله، بالتّوبة، أي بالعودة إلى الذّات واعتراف الإنسان أنّه قد ضلّ، ومن ثمّ بالعودة إلى الله ومحبّة الله، وبالله إلى موجوعي الأرض! والعودة، بصورة أساسيّة، تكون من طريق من اثنتين: إمّا من طريق النّسك، من طريق الشّدّة مع النّفس، ضبطًا لأهواء النّفس، من حيث إنّه لا استقامة، بَعدُ، إلاّ بالصّليب، وإمّا من طريق الآلام والضّيقات والموت. إمّا أن تقسو على نفسك بالنّسك، أو يتركك الرّبّ الإله لظروف الحياة، هنا، تقسو عليك! في كِلا الحالتَين، القصد هو الخلاص، أن نسعى من خلال ما يُرى إلى ما لا يُرى. ما لا تراه، ولكنْ، ترجوه، هو الثّابت إلى الأبد، أمّا المنظورات فعابرات لأنّ كلّ ما تحت الشّمس باطل (الجامعة)!

     فيما نتشوَّف للعيد الآتي للصّليب المقدّس، نتطلّع إلى الشّدائد الواقعة علينا، هذه الأيّام، بدموع، ولكنْ، كأقنية للخلاص! بعنادنا في الخطيئة، وإصرارنا على البطر، ولجوئنا إلى الهرب من وجه الله، كقايين، في كلّ حال، صار لا بدّ للخلاص من أن يأتينا بالولادة القيصريّة حيث أمكن؛ وصار لا بدّ لمحبّة الله أن تأتينا في الأوجاع… “بالأوجاع تلدين”! العلاجُ لم يعد يُجدي! الحاجة باتت لجراحة ولو صعبة! لهذا لا نصلّي من أجل أن تزول الآلام عن البشر، ولو صلّينا لكي لا يموت الإنسان يأسًا، بل نصلّي، بالحريّ، لكي يجعل الرّبُّ الإله هذه الآلام، في هذه الأيّام، للتّوبة والخلاص، حتّى لا يتألّم أحدٌ عبثًا! ثمّة حتميّة في الألم يسمح بها الله للخلاص! لا أوجع من أن تأتينا محبّة الله تحت علامة الآلام، ولكنْ لا أقسى من أن يقسو قلبُ الإنسان إلى النّهاية! أقلّه الآلام للتّوبة تكون مخاضًا لولادة جديدة، فيما قسوة القلب، بعناد، إلى المنتهى، تكون موتًا إلى الأبد!

     هذا إطار نظرتنا، كأبناء للإيمان، إلى ما نعبر به من ألم إلى وجه الله! نتطلّع إلى الآتي برجاء وفرح في الرّوح وتسليم لله، ويقينُنا أنّ الهروب من الألم هروب من الخلاص! في نهاية المطاف، كلّ هروب من ألم يأتينا، بتدبير من الله، للرّجاء، يؤول بنا إلى الوقوع في ألم، لا مناص منه، لليأس!

     لا ننسينّ القول السّيِّديّ: “متى ابتدأتْ هذه تكون فانتصبوا وارفعوا رؤوسَكم لأنّ نجاتكم تقترب” (لوقا 21: 28)!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share