زيارة البابا للبنان – وجهة نظر أرثوذكسية

mjoa Monday October 1, 2012 70

زيارة البابا بندكتس السادس عشر إلى لبنان كانت حدثاً كنسياً، وطنياً لبنانياً، إقليمياً ومسكونياً، كما وكانت حدثاً يهم الأديان الأخرى وبشكل خاص الدين الإسلامي. لاقت زيارة البابا ترحيباً خاصاً لأن مداخلاته لم تكن سطحية ولم يكتف قداسته بالإشارات المبهمة بل تحدث عن مواضيع حساسة منها تهريب الأسلحة وتوزيعها على المتقاتلين في سوريا، مسألة الهجرة، الربيع العربي وتقييمه.

في هذه المقابلة، يتوقف نيافة المطران غريغوريوس يوحنا ابراهيم، متروبوليت حلب، عند أهم لحظات هذه الزيارة ويعلق على بعض مداخلات، آراء واقتراحات بندكتس السادس عشر.

السؤال الأوّل: ما هو تقييمك الأوّلي لزيارة البابا بندكتس السّادس عشر إلى لبنان ومداخلاته؟ ما هي المداخلات التي تُعتبر أنّه يجب أن نكرّس له انتباهاً خاصّاً؟

الجواب: لقد تركت زيارة البابا بندكتس السّادس عشر إلى لبنان انطباعاً تميّز بالترحيب الحار مِن قِبَل المسلمين والمسيحيّين على السواء، وهذا يُشير إلى أنّهم قَبِلُوه رسولاً للسّلام، وهو الذي قال في حديثٍ له في المطار: جئتُ صديقاً لكلِّ مَن يريد السّلام ويُحبُّه. فالبابا لم يُميِّز بين مسلمٍ ومسيحي، ولا بين بلدٍ وبلدٍ آخر، لأنّه كان يتحدّث مع الإنسان في كلّ الشرق الأوسط.

وفي كلّ مداخلاته كان واضحاً، لأنّه حمل رسالة صديق لله ولكلّ من يسكن في الشرق الأوسط. ولكنَّ مداخلته لدى التوقيع وتسليم الإرشاد الرسولي في حريصا، كانت ذات معنى كبير، فبعد الإشارة إلى عيد الصّليب الواقع في 14 أيلول 2012، وهو يوم التوقيع على الإرشاد الرسولي، جرت مقاربة بين أحداث رافقت اكتشاف الصليب على يد هيلانة والدة الملك قسطنطين منها: الرؤية التي شاهد فيها قسطنطين الملك الصّليب، وصوت يقول له: بهذه العلامة ستنتصر، وتوبة الإمبراطور، ثمّ التوقيع على مرسوم ميلانو 313 م، وبين حفلة توقيع الإرشاد الرسولي من قِبَل البابا، الذي يمكن أن يكون مضمونه علامة انتصارٍ للرجاء والأمل في حياة المسيحيّين في الشرق الأوسط.

وكان جميلاً عندما امتدح قداسته شجاعة مسيحيي الشرق الأوسط، خاصّةً من حيث شعلة محبة الله اللانهائيّة، والتي يستمرون في الحفاظ عليها حيّةً ومشتعلةً في هذه الأماكن التي كانت في استقبال ابنه المتجسّد. وذكَّر البابا المسيحيّين في الشرق الاوسط فيما جاء في الإنجيل المقدّس: لا تخف أيُّها القطيع الصغير (لو 12: 32)، وقال قداسته موجِّهاً كلامه إلى كنائس الشرق الأوسط: لا تخفْنَ لأنّ الرّبّ حقّاً معكُنَّ حتّى انتهاء العالم، لا تخفْنَ لأنّ الكنيسة الجامعة ترافقكنَّ بقربها إنسانيّاً وروحيّاً.

أما المداخلة الثانية الهامّة فكان حديثه إلى الشبيبة في باحة الصرح البطريركي في بكركي، وتوجيهاته الأبويّة ليكونوا شهوداً ورسلاً لفرح المسيح، لأنّ الإيمان يقود إلى ملء الحريّة والفرح. إنّ إقرار قداسته بالصعوبات التي تعترض الشبيبة كان هامّاً جدّاً، ومن خلفيات هذه الصعوبات: قلة الاستقرار والأمن، وصعوبة إيجاد عمل، أو حتى الشعور بالوحدة والتهميش. ورغم كلّ التحديّات الخطرة في طريق بناء مستقبلٍ زاهر، استنكر البابا بأن تدفع البطالة وعدم الاستقرار بتذوق عسل الهجرة المرّ. لأنّ الهجرة هي اقتلاع من الجذور، وانفصال كليّ لمَن يتوجّه نحو مستقبلٍ غامض. إنّ حثَّ قداسته للشبيبة في أن تكون في الكنيسة ومع الكنيسة كان رائعاً جدّاً، خاصّةً عندما استشهد بقول الطوباوي البابا يوحنّا بولس الثاني: لا تخافوا، افتحوا أبواب عقولكم وقلوبكم للمسيح.

نقطة أخرى مهمّة جاءت في مداخلة قداسته إلى الشبيبة وهي الإشارة إلى الإحباط الذي يجب أن يكون بعيداً عن فكر الشباب، وهكذا تبقى عوامل المخدرات والتعاسة والإباحية بعيدةً عن حياتهم، ومع هذه الوصيّة دعاهم ليتعلّموا من المسيح القدوة، الانفتاح الكامل على الآخر، حتّى وإن كان هذا الآخر ينتمي إلى ثقافةٍ أو ديانةٍ أو جنسيّةٍ أخرى. وعندما أشار إلى توقيعه على الإرشاد الرسولي لم ينسَ دور الشباب فقال لهم: هذه الرسالة موجهة إليكم وإلى شعب الله بكامله. وعندما قال للشباب اللبنانيّين: أنتم رجاء بلدكم ومستقبله أنتم أرض الضيافة والعيش المشترك، كان يقولها لكلّ شبيبة الشرق الأوسط.

السؤال الثاني: كان للأب الأقدس كلمات جريئة بشأن استيراد وتوزيع الأسلحة على المقاتلين في سورية، فقد اعتبر هذا الأمر “خطيئة مميتة” ودعا إلى استيراد “أفكار، سلام وإبداع”. كما صرّح مدير دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي بأنّ جلّ ما يستطيع البابا القيام به هو إعلان رسالة السّلام، فما زاد عن ذلك هو تدخّل غير مسموح في سيادة الدول، ما رأيك؟

الجواب: من حق كلّ صاحب ضمير أن يكون إلى جانب قداسة البابا في رؤيته بشأن استيراد وتوزيع الأسلحة على المتقاتلين في سورية. وفي المسيحيّة كُبرى الخطايا هي الخطيئة المميتة، وفعلاً قتل الإنسان هو خطيئة مميتة، وعندما يندِّد قداسته باستيراد وتوزيع الأسلحة كأنّه يقول: كفاكم  يا تُجار الحروب والأسلحة بتدمير كيان الإنسان والإنسانيّة، خاصةً وأنّه برَّر المطالبة بعدم نقل الأسلحة، لأنّه من دون السّلاح لا يمكن للحرب أن تستمرّ، وهذا فكر راقٍ جدّاً، ورأي صائب، مبني على تعليم الإنجيل المقدّس، الذي أوصانا بأن نُحبَّ أعداءنا ونحسن إلى مَن أساء إلينا. ففي موعظته على الجبل قال السيد المسيح عن وصيّة: لا تقتل! ومن يقتل يكون مستوجب الحكم، أمّا هو فقال: إنّ كلّ من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم.

وفي رأيي أنّ وجود البابا في لبنان البلد الشقيق لسورية، كان عليه أن يقول كلمة حق في ما يجري على أرض سورية. لقد تعبنا جميعاً نحن المواطنين والمؤمنين بالله بنتائج هذه الحرب القذرة التي أودت بحياة عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء، ومئات الآلاف من الجرحى، وأكثر من مليوني مشرد ومهمّش في المجتمع، وعدد كبير من المفقودين. فالسؤال أين هو الضمير عند الإنسان العاقل الذي لا يقول للأطراف المتحاربة: كفاكم، قتلتم الإنسان، ودمرتم البنية التحتية لبلدكم. ثمّ لم يكتفِ البابا بالتنديد والاستنكار، وإنّما أعطى مفهوماً واضحاً بديلاً عن استيراد الأسلحة وهو استيراد أفكار، سلام وإبداع. وأكّد على أن نقبل الآخرين باختلافاتهم، وأن نظهر احتراماً متبادلاً للديانات، واحترام الإنسان كصورة الله، ومحبة القريب، كعنصر أساس لكلّ ديانة، فأنا أرى بأنّ البابا على حقّ عندما يُصرِّح بأنّ استيراد وتوزيع الأسلحة هو خطيئة مميتة.

السؤال الثالث: لم تكن زيارة البابا زيارة رسوليّة للبنان وحسب، بل كانت تهدف إلى حمل رسالة إلى الشرق بأسره. هل حملت شيئاً إلى سورية؟

الجواب: بكلّ تأكيد زيارة البابا الأخيرة لم تكن للبنان فحسب، لأنّ سينودس الأساقفة كان للشرق الأوسط، ولم يكن للبنان الذي خصَّصه الطوباوي يوحنّا بولس الثاني بسينودس آخر إلتأم في 26/11/1995 في روما، ومازالت كلمات الإرشاد الرسولي الذي وجّهه قداسته إلى اللبنانيّين تتفاعل بحياتهم من خلال عبارة: رجاء جديد للبنان، وكانت كنائس الشرق الأوسط بصورةٍ خاصّة تنتظر الإرشاد الرّسولي لسينودس الأساقفة الذي عُقِدَ للشرق الأوسط في تشرين الأول/2010، وعندما أقول كنائس، أقصد كلّ الكنائس، أي ليس الكاثوليكيّة فحسب، وذلك لأنّ المشاركة كانت فعليّة وأثّرت مساهمات الكنائس الأرثوذكسية والإنجيليّة في السينودس.

هل حملت هذه الزيارة الرسوليّة شيئاً إلى سورية؟ أقول نعم! إنّ السوريّين كانوا مرتاحين لمداخلات قداسته، ومثل غيرهم في بلدان الشرق الأوسط كانوا ينتظرون التوقيع على الإرشاد الرّسولي، خاصّةً وأنّ رسالة قداسته كانت حول: الكنيسة في الشرق الأوسط؛ شركة وشهادة، واقتراحي إلى الكنائس في سورية، أن تعود مرّةً أخرى إلى إيجاد آليّة تنفيذ لبنود الإرشاد الرسولي الخاص بالكنيسة في الشرق الأوسط.

السؤال الرّابع: ما كانت ردّات فعل المسلمين في سورية على انفتاح البابا على الدّين الإسلامي، ودعوته إلى التعايش واحترام الآخر؟

الجواب : بشكل عام ارتاح الأخوة المسلمون في سورية، أولاً: لأنّ البابا تمكّن، رغم كل الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة، وموضوع السّن إذ تجاوز عمره الـ85 سنة، أن يحقق هذه الزيارة التاريخية، لأنّ رحلةً من هذا النوع قد تُتعب البابا شخصياً، ولكنّه حقّق حلم كنائس الشرق الأوسط في المجيء إلى لبنان، لهذا ارتاح المسلمون لأنّ البابا زار لبنان، وأصبح قريباً منهم على بعد عشرات الكيلومترات، وخاطبهم كما خاطب كلّ بلدان الشرق الأوسط. ولاقت زيارته ردود فعل إيجابيّة عند الأخوة المسلمين خاصّةً عندما أعلن بأنّ السلاح هو الوقود للحرب ويجب أن يُمنع، وهذا الأمر يهم كلّ السوريّين مسيحيين ومسلمين لأنّهم يتطلّعون إلى اليوم الذي فيه تنتشر رايات السّلام والمحبّة والأخوة والتصافي والتلاقي بين كلّ المواطنين. ومداخلة البابا بشأن الأوضاع في سورية كانت بمثابة صرخة قوية وجهها إلى كلّ العالم، لتتوقّف الأطراف المتناحرة عن تدمير هذا الوطن الغالي. وأمر آخر مهم هو الدعوة إلى الاحترام المتبادل بين أتباع الديانات، وهذا من المبادئ الأساسيّة للعيش معاً تحت سقف المواطنة، وقد أعلن بعض الأخوة المسلمين عن ارتياحهم للمداخلات التي أُلقيت في مناسباتٍ شتّى.

السؤال الخامس: حذّر البابا الشبيبة عن تحاشي تجربة “عسل الهجرة المرّ”. وسيادتك، خلال “تمنياتك الثلاث” الشجاعة، أشرت إلى أنّ الهجرة التي لم تكن تخطر في البال في الأشهر الماضية باتت الآن حديثاً يوميّاً، فقد “عادت نغمة السويد وهولندا وأميركا وكندا وأي بلد يساعد على الهجرة تتكرّر على أفواه المسيحيّين”. وقد دعوتَ إلى عدم الاكتفاء بشجب واستنكار الهجرة، بل إلى القيام بعمل ملموس لدرئها. ماذا يستطيع المسيحيّون الآخرون أن يفعلوا للمسيحيّين السوريّين؟

الجواب: كان كلّ الحقّ مع قداسة البابا في حديثه إلى الشباب اللبناني بقوله: لا يجب على البطالة وعدم الاستقرار أن يدفعا بكم لتذوّق عسل الهجرة المرّ. لقد أخذ موضوع الهجرة في السينودس مساحةً كبيرة من الكلام والوقت، فكلّ الكنائس تخاف من تكرار سيناريو العراق، أي أن يخسر الشرق الأوسط لوناً مهمّاً من ألوانه الزاهية، فالمكوِّن المسيحي من أساس المكوِّنات في هذا الشرق قبل وبعد الإسلام، ولهذا أخذ موضوع الهجرة في السينودس مساحةً كبيرة من المداخلات والنقاشات، فكلّ الكنائس تخاف من تكرار سيناريو العراق، وبعض الدراسات تُشير إلى انّ عدد المسيحيّين اليوم في المنطقة العربيّة هو بين 12 و15 مليون نسمة غالبيتهم تعيش في مصر، ومن المتوقّع أن يهبط الرقم إلى 6 ملايين بحلول العام 2020. ربّما لم يُدرك مواطنو هذه المنطقة بأنّ مواجهات الهجرة المتوالية للمسيحيّين تركت نتائج سلبيّة في مجالات حضاريّة وثقافيّة بصورةٍ خاصّة، فإذا فقد هذا التنوع الديني ألقه ستزداد الخصومات بين أتباع المذاهب والأعراق في كلّ المنطقة.

البابا بندكتس في حديثه عن هجرة المسيحيّين إلى خارج المنطقة، كان يُشير إلى أنّ الهجرة كما سمّاها عسل مرّ، تشكّل نسفاً للتنوّع الثقافي في منطقةٍ هي مهبط الوحي والرسالات السماويّة. هنا ترعرعت اليهودية، ونشأت المسيحية، وظهر الإسلام، وعندما أشرتُ في تمنياتٍ ثلاث وجهتها إلى قداسة البابا في زيارته للبنان، إلى نغمة السويد وهولندا وأميركا وكندا وأي بلد آخر يساعد على الهجرة، كنت أرى أنّ سيناريو العراق يتكرّر، وهذا يعني أنّنا سنقضي على آمال مَن يريد أن يعيش في وطنٍ متنوّع.

أمّا ماذا يستطيع المسيحيون الآخرون أن يفعلوا للمسيحيين السوريّين فهذا موضوع آخر. قبل كلّ شيء يجب أن يكونوا عناصر قوية تضغط على حكوماتهم من أجل وقف إطلاق النّار بشكلٍ عاجل ليقف نزيف الدم الذي اصطبغت به أرض سورية في تاريخها المعاصر، ثم تقديم المساعدات الإنسانيّة على كلّ الجبهات، والمطالبة بإطلاق كل المأسورين والسجناء من كل الأطراف، والمشاركة في إعادة البناء خاصّةً المساكن والمدارس والمراكز الدينيّة والجوامع والكنائس، لأنّ بعضها يحتاج إلى مساعدات كبيرة لإعادة الحياة إليها، وأيضاً يستطيع المسيحيّون أن يكونوا صنّاعاً للسّلام فيُعدّوا من أجل حوارٍ متواصل، أوّلاً بين المسيحيّين أنفسهم وهم ينتمون إلى مذاهب متعدّدة، ثمّ بينهم وبين إخوتهم المواطنين المسلمين، إلى جانب تهيئة الأجواء لطاولة المفاوضات بين كل الأطراف المتناحرة داخل سورية وخارجها، لأنّ السمات التي تغنّت بها سورية لفترةٍ ليست قصيرة زمنيّاً كـ: الوحدة الوطنيّة، والعيش معاً، والإخاء الديني تزعزعت أركان هذه السمات في بعض المناطق، وانتشر القلق بين صفوف المسيحيين، لا بل هم اليوم في حالة خوف من المستقبل، ولهذا زادت موجات الهجرة أولا إلى مناطق آمنة في سورية، ثمّ إلى خارج سورية. وأخيراً يستطيع المسيحيّون الآخرون أن يؤثِّروا على الإعلام الغربي فينقي من الذاكرة كلّ الصفحات القاتمة التي أدّت إلى التباعد بين المسيحيّين والمسلمين بسبب أحداثٍ تاريخيّة أصبحت من الماضي.

السؤال السادس: “الربيع العربي” هو فصل يشبه “آذار الغدّار”. فمن ناحية نرى بوادر شمس الحريّة، ومن ناحية أخرى عواصف العنف. وقد تحدثت في مقالتك المذكورة عن الوضع في سورية الذي يكرّر “سيناريو العراق بقوّة” مولداً “الخوف من المجهول” لدى مختلف الكنائس المسيحيّة. من ناحيته، تحدّث بندكتس السّادس عشر في المؤتمر الصحفي الذي عقد على متن الطائرة التي أقلّته إلى لبنان بشكل إيجابي عن الربيع العربي، مشيراً إلى أنّه يعبِّر عن رغبة الشعوبـ والشباب بشكلٍ خاص ـ بالحريّة والإزدهار. ماذا ينقص في الرّبيع العربي لكي يُظهر وجهه الصافي الجميل؟

الجواب: لا أعرف مَن أطلق على هذه المرحلة مصطلح: الربيع العربي، ولست واثقاً من أنّ هذا الربيع هو عربيّ أو إسلاميّ، لأنّ الفكر الإسلامي يتجلّى بوضوح في كلّ مكان انتصرت فيه رايات هذا الربيع العربي : من تونس، إلى ليبيا، فاليمن، وأخيراً مصر. المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلاميّة في هذه البلدان وعدم الالتفات بصورة كافية إلى التنوع الديني والمذهبي، أو تنقية الدساتير من الفكر المتشدِّد والداعي إلى الأصولية، خاصّةً ما يجري اليوم على أرض الكنانة، كلّ ذلك يُشير إلى أنّ هذا الربيع العربي مازال شتاءً!! أو أقل ما يمكن أن يُقال خريفاً عربيّاً، لأنّنا لا نرى في هذه المرحلة ما يُزيِّن هذا الربيع بالورود والأزهار والرياحين وغيرها من علامات الربيع، بل نلمس لمس اليد الفوضى، والفساد، والدمار، والعنف، والقمع، والتهجير القسري، والقتل، فكيف يمكن أن يتخيّل الإنسان صوراً مأساويّة قاتمة يُطلق عليها مصطلح الربيع العربي أو الإسلامي ؟ لقد جرت محاولات كثيرة مِن قِبَل جهاتٍ متعدِّدة استعداداً لاستقبال هذا الربيع العربي منها : وثيقة كايروس فلسطين، التي فسحت المجال للمسيحيّين الفلسطينيّين لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، والمناشدة لتحقيق سلام عادل، وهذه الوثيقة بالذّات دعت إلى أسلوب المقاومة القائم على المحبّة، ولكن هنا يُطرح سؤالٌ هام وهو، إذا خلت فلسطين من المسيحيّين كيف سيقاومون الاحتلال، ويناشدون من أجل سلام عادل، فالمهم هو الحضور المسيحي، ودوره الفعّال، ضمن ما يُسمّى بـ: الربيع العربي.

كان من الطبيعي جدّاً أن يشير البابا بندكتس السادس عشر إلى هذا الربيع العربي، وعلى تأثيره على المكوّن المسيحي في الشرق، والبابا يرى في هذه المرحلة، البُعد الإيجابي الذي ليس حاضراً في الربيع العربي، ولكن قد يُولد بعض مخاضٍ عسير. إن توقعات قداسته هي أن ترى المنطقة مزيداً من الديمقراطيّة، ومساحات أكثر من الحريّة، ودرباً واسعاً للتعاون وبهويّةٍ جديدة، ودعوته إلى شبيبة مثقّفة ومتعلّمة تنادي بالمزيد من المشاركة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة هو مطلب حقّ، لأنّه دون هذه المشاركة لا يحصل تضامن حقيقي بين كلّ المواطنين.

إن الذي ينقص في الربيع العربي هو الصدق في النيّات، لأنّ المسيحي في الشرق لا يُريد أن تتكرّر مأسٍ مرّت على المنطقة منذ العام 1860، ومروراً بعام 1895، ثمّ بنتائج ويلات الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأخيراً استخدام العنف والقتل في بعض البلدان مما أثّر على الحضور المسيحي، وأقصد هنا العراق بالذات، الذي عانى كثيراً وحصل فيه التهجير القسري للمكوِّن المسيحي الذي فقد أكثر من نصفه عدداً خلال سنواتٍ قليلة. فالصدق في النيّات يدفع إلى أفعالٍ متميزة، وأعمالٍ حسنة، ويؤكّد على أنّ حقّ المواطن محفوظٌ في دساتير الدول جميعاً دون الالتفات إلى الدين أو المذهب أو الانتماء أو الثقافة وغيرها من الأمور التي أصبحت بمثابة حواجز بين الإنسان وأخيه الإنسان، يبقى سلاح حماية المواطن في وطنه المواطنة! فهل نفسح بمساحات واسعة للمزيد من ثقافة المواطنة؟.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share