سأل الخليفة العبّاسيّ أبو جعفر المنصور طبيبه جورجيس ابن جبرائيل عن زوجته، فأجابه: “كبيرة ضعيفة لا تقدر أن تنتقل إليّ من موضعها”. فأمر الخليفة خادمه أن يختار من الجواري الروميّات الحسان ثلاثًا، ويحملهنّ إلى جورجيس. غير أنّ هذا الأخير أنكر ذلك، واعتذر للخليفة حين سأله عن سبب عدم قبول الهديّة: “هؤلاء لا يكوننّ معي في بيت واحد، لأنّا معشر النصارى لا نتزوّج بأكثر من امرأة واحدة، وما دامت المرأة في الحياة لا نأخذ غيرها”.
ليس موقف جورجيس مستغربًا لدى مَن يحيا الزواج مسيحيًّا. فالزواج الكنسيّ يُختصر بلفظ واحد هو “الإكليل” الذي يوضع على رأسي العروسين في الاحتفال الطقسيّ. ويسوع المسيح هو أشهر مَن وُضع على رأسه إكليل، وكان ذلك على الصليب الذي به انتصر المسيح على الموت مستشهدًا في سبيل العالم وفاديًا الأنام. وما تشبيه الرسول بولس الحبّ الذي يجمع العروسين بحبّ المسيح للكنيسة التي جاد بنفسه لأجلها سوى تأكيد على أنّ المطلوب من العروسين أن يستشهدا أحدهما حبًّا بالآخر.
القادم إلى الزواج قادم إلى الاستشهاد، لذلك سمّي سرّ الزواج بسرّ الحبّ. وكلّ سرّ مقدّس لا يكتمل من دون المشاركة في موت المسيح وقيامته، وهذا يتمّ ويتحقّق بالمناولة. فالمعموديّة “مشاركة في موت المسيح وقيامته”… والزواج أيضًا يفترض أن يشارك العروسان في موت المسيح وقيامته كي يصبحا “جسدًا واحدًا”، وذلك يعني أنّهما تخلّيا كلّ منهما عن أناه الخاصّة في سبيل نشوء أناهما الواحدة التي تجمعهما، تلك الأنا المنبثقة من اتّحادهما بالربّ في سرّ الزواج.
لا يرمز الإكليل، إذًا، إلى مجد أرضيّ، ذلك أنّ الإكليل ليس تاجًا، وشتّان ما بين الإكليل والتاج. كما أنّه لا يرمز إلى اتّحاد موقّت، بل هو قبل كلّ شيء شهادة يؤدّيها المرء مرّةً واحدة، والإنسان لا يُستشهد أكثر من مرّة. إذا كان الإكليل شهادةً، وبالتالي موتًا في سبيل أن يحيا الشريك، فعلى القادمين إليه أن يعوا مدى الالتزام الذي يتنكّبونه جرّاء ذلك. وهذا ما تقوله الرسالة التي تتلى في خدمة الزواج: “أيّها الرجال أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح الكنيسة وبذل نفسه لأجلها” (أفسس 5، 25).
لم ترَ الكنيسة يومًا نفسها موثّقة عقود زواج، هذا أمر طارئ في التاريخ وليس من رسالتها. هي مكان يتجلّى فيه عمل الروح القدس، الإله الذي قبل الدهور، والذي هو في الآن عينه روح التقديس من حيث علاقته بالعالم. مَن يرجو من الراغبين بالزواج الحصول على نعمة الروح القدس وبركته يجد في الكنيسة ما تتوق إليه نفسه. ثمّة مَن لا يمكنه، بسبب الارتباط بشريك غير مسيحيّ، أن يحصل على سرّ الزواج، فلا تحرمه الكنيسة من باقي الأسرار، وبخاصّة السرّ الجوهريّ، سرّ المناولة.
يبقى أن نؤمن أنّ الروح القدس يعمل بطرق لا يسع بشريًّا أن يدركها أو أن يحدّها في الزمان أو في المكان. ومَن يحقّق أهداف الزواج، أيًّا كان العقد، كما رسمها المسيح في الإنجيل والتراث المسيحيّ الحيّ يكون الروح معه ويقدّسه بطريقة لا توصف. والله على كلّ شيء قدير.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 20 شباط 2013