الرّحلة إلى العولمة السّدومية!

mjoa Tuesday May 21, 2013 50

أَكتشفُ، يومًا بعد يوم، أنّ الفردانيّة الّتي تطبع الوجدان المعاصر، بحدّة متنامية، سواء بين المعتبَرين مؤمنين أم غير مؤمنين، تعمِّق باطنيّة المسرى، لدى الكثرة العظمى، على نحو مأسويّ!

     دعوني، أوّلاً، أُوضح مضمون الفردانيّة الّتي أقصد. الفردانيّة غير الفرادة. لكلّ إنسان فرادته، مزاجه، مواهبه، طاقاته، سماته… هذا من الطّبيعة والمنشأ. الفردانيّة هي أن يكون، أو قل، أن يصير الإنسان محور ذاته. هناك، أساسيًّا، نمطان من التّوجّه في حياة الإنسان: النّمط الشّركويّ والنّمط الفردانيّ.

في النّمط الشّركويّ أنت عضو في جسد، تمامًا كما الأعضاء في الجسد العضويّ للإنسان. كلّ مرتبط، عضويًّا، بغيره، في انفتاح كامل عليه، في تفاعل كيانيّ معه، في تعاون عميق وإيّاه. من دون هذا الانفتاح والتّفاعل والتّعاون يموت! يماثل غصنًا مقطوعًا من شجرة. وجوده، جوهريًّا، انعطافيّ. لا فقط يتّخذ الأعضاء الأخرى، بصورة عفويّة، بل يحقِّق ذاته بهذا الاتّخاذ أيضًا. لا فقط يساهم في إنماء الأعضاء الأخرى، بل لا ينمو، هو نفسه، من دون هذا الإسهام أيضًا. لا يعطي وحسب، بل، إذ يعطي يأخذ. أَخذُه من طبيعة عطائه. يستمدد ما يحتاج إليه ممّا يعطيه. هذا ما يجعل العلاقة بين أعضاء الشّركة علاقة عضويّة. العائلة، بخاصّة، مِن هذا النّمط. وكذا الكنيسة، من حيث هي عائلة الآب السّماويّ. كلُّ عضو،

هنا، بما له من فرادة، مرتبط بالعائلة ككلّ، وبكلّ عضو فيها. هذه العلاقة، بما تمتاز به من انفتاح وتفاعل وتعاون، هي الّتي تجعل الإنسان شخصًا. فإذا لم تكن العلاقة على هذا النّحو، فإنّ المرء لا يكون شخصًا بل فردٌ. الشّخص يحدِّده امتداده. الفرد تحدِّده مزاياه. يتكوّن الشّخص في الإزائيّة المتفاعلة مع الشّركة. الشّخص شراكة. طبيعته شركويّة. أمّا الفرد فذاتيّ. يكتفي بذاتيّته. ينتقي، مما هو من خارج ذاته، ما يناسبه، ولا يلتزم إلاّ نفسه. لا مانع لديه أن يَخضع للقوانين والأعراف الّتي تنظِّم علاقاته بسواه للحؤول دون اصطدام ما له بما لغيره، غير أنّ عالمه الكيانيّ، الفَلَك الّذي يدور فيه، هو ذاته. ذاته، في العمق، هي أَلِفُه وياؤه! بهذا المعنى يكون فردانيًّا.

     على هذا، الشّخصُ، لأنّه ذو طبيعة شركويّة، يلتزم محبّة الآخر، طبيعيًّا. فيما الفرد، لأنّه ذو طبيعة فردانيّة، لا يلتزم، تلقائيًّا، إلاّ محبّة نفسه. الآخر هامشيّ لديه. هذا لا يمنع أن يكون الفرد مهذَّبًا في تعامله مع الآخرين. التّهذيب، في ذاته، ليس، بالضّرورة، محبّة. هو سمة من سمات التّعامل مع الغير. قد يُحسَب ميزةً اجتماعيّة، لكنّه ليس فضيلة بحال.

     بالقياس عينه، حرّيّة الشّخص يحقِّقها متى تعاطى محبّة الآخرين، ما يعني أنّه إن لم يحبّ لا يصير حرًّا. الإنسان، بهذا المعنى، لا يولد حرًّا. يولد طاقة حرّيّة. فإن أحبَّ – وهذا وقف على الإرادة لديه – فإن حرّيّته، إذ ذاك، تخرج من حال الكمون إلى حال الفعل. وإن لم يحبّ – وهذا، أيضًا، رهنٌ به – فإنّ حرّيّته لا تتفتَّح بل تكون كأنّها لم تكن. الإنسان، إذ ذاك، يصير، بصورة تلقائيّة، مستعبَدًا لأهواء نفسه. الآخر، إذ ذاك، يستحيل حقلاً لأهوائي، مادّة لرغائبي. يَبْطل، لديّ، عن أن يكون كائنًا. أُشيِّئه!

     الحرّيّة الفردانيّة تتمثّل على غير النّحو الشّخصانيّ. الحرّيّة، هنا، مرتبطة بقناعات المرء الذّاتيّة، بما ترغب به نفسه، بما يحلو له. النّزعة، بعامّة، في المجتمع، اليوم، هي صوب هذا النّمط من الحرّيّة. عندما يتحدّثون عن الحرّيّة، فهذا، بالأكثر، ما يقصدون. وعندما يرومون هذه الحرّيّة، هذا، بالأكثر، هو المناخ الّذي يطلبون! لذا يعملون، بيننا، على تحقيق الحرّيّات بهذا المعنى. عليها تتربّى النّاشئة. وعلى أساسها تُصاغ القوانين. لا قِيَم تحكم الحرّيّةَ الفردانيّة. الحرّيّة الفردانيّة هي القيمة، المعتبَرة إنسانويّة بامتياز، الّتي تحكم كلّ قيمة. وحدها تشكِّل أساس ما يُسمّى بـ”حقوق الإنسان”.

     بالمقارنة بين نمطَي الحرّيّة، الشّركويّ والفردانيّ، نجدنا لا أمام مفارقة وحسب، بل أمام تضاد عميق! الواحدة تنقض الأخرى تمامًا! الحرّيّة الشّركويّة، للفردانيّين، جهالة، والحرّيّة الفردانيّة، للشّركويّين، عبوديّة! الأولى، للفرادنيّين، خانقة، والثّانية، للشّركويّين، قاتلة! الأولى، لمناقضيها، تأسر الإنسان، والثّانية، لمناقضيها، تشوِّهه! الأولى، كيانيًّا، انعطافيّة، فيما الثّانية إنغلاقيّة!

     كيف تعمِّق الفردانيّة باطنيّة المسرى؟

     في ديارنا، طَبَع التّاريخُ الوجدان، بعامّة، بطابع الباطنيّة. وتيرة الاضطهادِ ولَّدت الخوف المزمن، والخوف المزمن فرض الانكفاء والظّواهريّة، فصار الإنسان، بقوّة العادة، يُبطن ما لا يُظهر، ويُظهر ما لا يُبطن. إرثُ الكذب والتّكاذب تُنُوقِل على نحو تلقائيّ مُطبّع، مِن باب حفظ البقاء! فلمّا أَخذ مناخُ الفردانيّة يسود بتأثير تفتّحِ القوى العقليّة والمَأْلَلَة، أي تطوّر الآلة وشيوعِ استعمالها، وإدمان الإنسان عليها، واستحالة البشر كائنات استهلاكيّة بإزائها، وإدمان الاستهلاك، بنتيجة ذلك، كقيمة إنسانيّة بامتياز، أضحت الباطنيّة هي المدى الوجدانيّ المتمدّد أبدًا لتحقيق الإنسانِ ذاتيّتَه. بتأثير ذلك، وهنت الرّباطات الكيانيّة للإنسان بمحيطه، بالأكثر، وتجوَّفت، ومالت البشريّة، برمّتها، إلى الاستحالة جُزُرًا. الإنسان الجزيرة بات النّموذج المرتجى. على هذا، باقتران الباطنيّة بالفردانيّة، برزت صورة الإنسان الكذوب ميلاً، والذّاتيّ المنحى، مِسْخًا. بات على مثال ما في جوفه من أهواء. بات على مثال ما يَستهلِك. بات على مثال مخاوفه العميقة.

     في الكنيسة، هذا التموضع قاتل! الكنيسة، في عمقها، شركويّة، محبّيّة، شخصانيّة. الباطنيّة تمظهرها، والفردانيّة تفكّكها! بالأحرى، تَفكّ الفردانيِّين عنها، لأنّ الكنيسة إلهيّة بشريّة التّكوين وليست قصرًا على جماعة. من هنا أهمّيّة تراث استقامة الرّأي. القصد هو نقل الوجدان الرّسوليّ من جيل إلى جيل. فإذا ما كانت السّيرة أن يرتع المسمّون “مؤمنين” في باطنيّتهم، ولمّا تتنقّ طويَّتُهم ويتروحن مسراهم؛ كذلك، إذا ما تشبَّعوا من فردانيّة المنحى الدّاخليّ فيهم، فإنّهم يَفرغون من المضمون الإلهيّ، ولا يبقى لهم من الإنجيل غير الكلام الأجوف. يُمسون جسدانيِّين نفسانيِّين لا روح لهم. “لهم صورة التّقوى، ولكنّهم مُنكرون قوّتها” (2 تيموثاوس 3: 5). يتعلّمون، في كلّ حين، ولا يستطيعون أن يُقبلوا إلى معرفة الحقّ أبدًا. يتكلّمون عن الفضيلة ولا يشاؤون أن يسلكوا فيها. تَسمعهم تفرح، تتعامل معهم تحزن! ومن طول إقامتهم في الباطنيّة، ولكثرة تمرّسهم في الفردانيّة، يَضمر حسّهم بالرّوحيّات وتعمق لامبالاتهم بالتّوبة ويَعظم تعلّلُهم بعلل الخطايا.

     تعجَبُ، اليوم، كم هو سهل على مَن تعتبرهم “أبناء الإيمان”، أو أكثرهم، أن يضلّهم المضلِّل. تسأل وتتساءل: “لماذا”؟ أتكلَّم على العديدين ممّن تراهم، في الظّاهر، على غيرة إيمانيّة وتقوى بيِّنة، فتظنّ أنّهم راسخون في مخافة الله وطاعته ومحبّته. فإن أعثرهم المعثِر فإنّك تلقاهم يسقطون بيسر، وينحرفون بسرعة! ولا يحدث لهم ذلك من احتيال العدو وحسب – والعدوّ حيّال في كلّ حال –، بل، بالأولى، من عدم سلوكهم، في العمق، بالرّوح، وتمنُّعِ روح الرّبّ من الإقامة فيهم. شيء غير نقيّ، في دواخلهم، يحول دون استراحة روح الرّبّ فيهم. ذهنُهم لا يكون في الله! يمكثون، لباطنيّتهم، في الخوف؛ ويقيمون، لفردانيّتهم، في حبّ الذّات. لذلك يُستأسَرون للخوف، لا من الله، بل من العالم. ويؤثِرون تحكيم ما لأنفسهم على ما لله. يرتاحون لأحكام أفكارهم ولا يرتاحون لأحكام روح الله! هذا يجعلهم مقيمين في كبريائهم ولا يبلغون التّواضع لأنّهم لا يسلكون ولا يُسلِمون أنفسهم لله. من هنا سهولة إيقاع عدوّ الخير بهم. مهما كان الإنسان ذكيًّا ومتمرِّسًا في أمور هذا الدّهر فليس ما يحميه من خداع الشّرّير وغدره. وحده الرّوح القدس يصون، ووحده التّواضع، من ثمّ، يحفظ! وحده روح الرّبّ، إذا ما حلّ فينا، ينبِّهنا من غزوة العدوّ، نظير الرّادار الرّوحيّ! فإذا ما هبط الغريب بنا، فجأة، وجعلنا نضرب أخماسًا بأسداس، لا نعرف يميننا من يسارنا، ولا الصّحيح من الفاسد، فإنّ ذلك يكون مؤشِّرًا أنّ العدوّ يصطادنا بعقولنا أو بأهوائنا أو بمشاعرنا، ويخلّف وراءه، فينا، بلبالاً كَمَن لا قِبْل له لا بعمل الله ولا بخدعة عدوّ الله.

     لا أكثر، اليوم، من الظّواهريّة في الانتماء إلى حقّ الإنجيل، وفي العيش وفق أصول الحياة الرّوحيّة. نحن في أزمة إيمان عميقة لا خروج لنا منها إلاّ بالتّوبة في المسوح والرّماد. قشرة الشّجرة تبدو سليمة، لكنّ الأوراق تذبل والثّمر يهزل ويقلّ. لماذا؟ لأنّ القشرة باتت ساترًا لجزع ينخره الدّود ويَفرغ، بتواتر، من مَواطن الحياة ويترب! كلّ يوم، نكتشف الفساد يتنامى بسرعة متزايدة، حتّى بات حفظُ النّفس عسيرًا، ناهيك عن حمل أثقال الآخرين، من كثرة المآثم، سوى بقليل من الصّلاة والمحبّة تَهِيان بتواتر. يا ويلاه! “كلّ الرّأس مريض، وكلّ القلب سقيم. من أسفل القدم إلى الرّأس ليس فيه صحّة” (إشعياء 1: 5 – 6)! “لولا أنّ ربّ الجنود أبقى لنا بقيّة صغيرة، لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة” (إشعياء 1: 9)! بعد إشعياء النّبيّ كان السّبيّ خاتمة! فأيّ خاتمة تنتظرنا؟!

     أتُرى هناك، بعدُ، مَن يُبصر ويَسمع؟! القطيع الصّغير يصغر صغيرًا، كلَّ يوم، ونظنّنا في طريق السّلام!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share