الإعلام المسيحيّ المقبول وغير المقبول!

mjoa Tuesday July 30, 2013 116

المقصود بـ”الإعلام المسيحيّ”، بخاصّة، في هذه المقالة، الإعلام المرئيّ والمسموع: الإذاعة والتّلفزيون والإنترنت والتّلفون النّقّال، وما يتفرّع منها. طبعًا، تعاطي وسائل الإعلام بات شائعًا، لا بل معمّمًا، وقلّما تجد مَن يتساءل، في شأنه، برصانة، عمّا يجوز وعمّا لا يجوز. بات لا فقط من العاديّات بل من البديهيّات المتفلِّتة في مسارات الحياة الدّنيا.

     الإعلام المسيحيّ، هو، بعامّة، جهد بشريّ يحمل صفة “المسيحيّ”، لكنّه ينطوي على موقف غيرِ معلَن، وربّما غيرِ واع، وكذا على طريقة محدّدة تستدعي التّسآل، في تعاطي الكنسيّات، بحيث يمكن معهما رصد وتبيُّن اللاّهوت الدّافع إليهما (الموقف والطّريقة)، وكذلك طبيعة الحياة المسيحيّة الّتي ينطلق منها ويَنْشُدها مَن يقف وراء الإعلام المسيحيّ، كما هو متبنّى!

     في المبدأ، الإعلام المسيحيّ مفهوم ملتبِس. وإذا ما قلنا ملتبسًا قلنا ما يختلط فيه ما هو مقبول بما هو غير مقبول، ما ينسجم وطبيعة الكنيسة الحقّ وما لا ينسجم، ما يوافق الحياة المسيحيّة وما لا يوافقها. ماذا يعني ذلك؟

     أوّلاً، في الإعلام، بعامّة، عندك أفق أيديولوجيّ ذو معالم خاصّة؛ وبين يديك سيل من المعلومات تستقيها من مصادر، ما أكثرها اليوم! كذلك، عندك ما له مظهر الألعاب والتّسليات، لكنّه محفوف بالتّوجيهات والرّسائل القيميّة. ثمّ لديك، إلى مواد تثقيفيّة عامّة، ما يمتّ إلى التّنشئة والتّعليم اللّذين يروم أصحابُ الإعلام، من خلالهما، بخاصّة، إحداث مسارات فكريّة مواقفيّة شعاريّة محدّدة، في وجدان المشاهدين والسّامعين، باعتماد أسلوب التّكرار بشتّى الأشكال والألوان، كذا القصف الشّعاريّ الانطباعيّ المركّز، بما يعادل الغسل الدّماغيّ!

تساعد على ذلك طبيعةُ الأداة الإعلاميّة الّتي تعتمد حشو الذّهن وإغراقه بالمعلومات الممرَّرة، أكوامًا، بوتيرة أسرع، مرّات، من أن يتمكّن الجهاز العصبيّ من رصدها وضبطها وفحصها وتصنيفها وتقييمها والتّخلّص من الغثّ منها والاحتفاظ بالنّافع! الوسيلة الإعلاميّة، في نهاية المطاف، قلّما تتيح لك فرصة التّفكير والمساءلة والحوار الحقيقيّ. تلقّمك وتلقّنك ما تشاء وما لا تشاء وأنت فاغرٌ فمك! ولا تلبث أن يتبلّد ذهنك وتستحيل، عن رضى وتسليم، صدًى وفمًا لما يكرّرونه بإصرار عليك! يفكّرون عنك في إطار منطق شكليّ جذّاب قلّما يقبل الحوار، ولا تمييز فيه بين الحقّ والباطل إلا ملوَّثَين بالمصالح الخاصّة! كلّ يتصوّر، والحال هذه، أنّه على حقّ وأنّ غيره على باطل! يضعون عليك اليد من الدّاخل!

تصير نسخةً زرقاء، بمعنى، لما يطبعونك عليه! يستعبدونك من داخل نفسك، فتتبنّى، بما يتركون فيك، من انطباعات وانفعالات، ما يبثّونه فيك، وتَحسب أنّ هذا منك، وأنّك حرّ ومطّلع ولك موقف ومواقف، فيما يحيلونك، إلى حدّ ليس بقليل، شبهَ ببغاء وطاووسًا يتباهى بما ليس منه ولا له! ليس كالإعلام يحوِّل البشر إلى قطعان! الإعلام، عمليًّا، هو المجال اللّبق القهّار، بامتياز، لأقصى وأقسى أنواع العبوديّة وأمرّها! هذا كلّه، في قالب من الألوان الزّاهية الخلاّبة والصّياغات الكلاميّة المتقنة والشّعارات المجوّفة الرّنّانة والأفلام السّينمائيّة الفائقة الجودة المحاكية للواقع والخيال في آن معًا، والموسيقى الإيقاعيّة التّصويريّة الأخّاذة… هنا تتداخل التّسليات بالمعلومات والتثقيف والتّوجيهات والانطباعات ليمسي كلٌّ، بطُعم المصيدة، سمكةً برسم الاصطياد في إطار تسويق أفكار محدّدة وترويج سياسات منمّقة، على ما في ثناياها من سموم وأضاليل!

     ثانيًا، بالعودة إلى الإعلام المسيحيّ، في ضوء ما تقدّم، أقول إذا ما كان الإعلامُ عمليّة فكريّة نفسانيّة تعتمد التّواصل الإيهاميّ، اللاّشخصانيّ، مبدأً، فما يمكن أن ينفع الكرازةَ المسيحيّة والتّواصلَ المسيحيّ، ومن ثمّ ما يمكن أن يندرج في إطار الشّهادة المسيحيّة، من الإعلام، محدودٌ وينبغي تحديد رقعته وطبيعته. المسيحيّة، بطبيعتها، إلهيّة بشريّة وليست بشريّة بحتة، ولا يمكن حصرها في أي بوتقة بشريّة. لذا، ليس كلّ ما هو مسيحيّ قابلاً لأن يُتعاطى كمادة إعلاميّة. الإعلام، طبعًا، يمكن أن يكون مساعدًا في مجال التّعليم، ولكنْ فقط في إطار الشّركة الحيّة بين المؤمنين. إذا ما كان الإعلام قائمًا في ذاته، أو بولغ فيه، أو إذا ما جرت الاستعاضة، واقعًا، عن دفء الشّركة الإيمانيّة بمجرّد نقلٍ لجملة أفكار وتعاليم وانطباعات وعواطف كنسيّة فإنّنا نحوّل كنيسة المسيح إلى شركة أفكار واتّجاهات نفسانيّة! وهذا يقتل روحَ الشّركة ويُحلّ محلّها مسيحيّة فردانيّة عقلانيّة نفسانيّة! عبر وسائل الإعلام، لا يمكنك أن تنقل أكثر من صورة عن الشّمعة للآخرين. لا يمكنك أن تضيء أو أن تستضيء بشموع الآخرين. الآلة، في هذا الإطار، تلغي، بيسر، الرّوح وعمل الرّوح. ليس كالحضور الإنسانيّ، ليس كالتّلاقي البشريّ، يشكّل إطارًا موافقًا وحيدًا لتعاطي الكلمة الحيّة، للتّعزية بروح الله! التّلاقي، على بعد، لا يزوّد أحدًا بالرّخم الإيمانيّ، فقط بدغدغات عاطفيّة ومعلومات متفرّقة أو تكاد. من هنا أهمّيّة ما عبّر عنه الرّسول المصطفى بولس لأهل رومية لمّا قال لهم: “إنّ الله الّذي أعبده بروحي… شاهد لي كيف بلا انقطاع أذكركم متضرِّعًا دائمًا في صلواتي عسى الآن أن يتيسّر لي مرّة بمشيئة الله أن آتي إليكم. لأنّي مشتاق أن أراكم… لنتعزّى بينكم بالإيمان الّذي فينا جميعًا، إيمانكم وإيماني” (رومية 1: 9 – 12)!

     على هذا، عبر إعلام مسيحيّ قويم، بإمكانك أن تقرأ الكتاب المقدّس وتفسِّره، وأن تنقل تعاليم الكنيسة، وأن تعرِّف بقوانينها، وأن تجيب عن أسئلة لها علاقة بالعائلة المسيحيّة، وبالأخلاق المسيحيّة، وبمقاربة القضايا المعاصرة، وأن تعرِّف بالكنائس، وبالأديرة، وبالكنائس الأخرى، وبالدّيانات غير المسيحيّة… في هذا كلّه، وما يعادله، الإعلام، لا شكّ، ينفع، على أن يبقى الإطارُ عمل الشّركة الحيّة الفعليّة، والمحبّةَ، والعبادةَ، والتّوبةَ، وحياةَ الصّلاة والصّوم، والتّداعي إلى حياة الفضيلة، وإلى محبّة الفقير، وإلى العناية بالغريب… الخطر المدّاهم، أبدًا، هو أن تتحوّل الكنيسةُ بالممارسة، من كنيسة الرّوح والحقّ، إلى كنيسة تلفزيونيّة عقلانيّة نفسانيّة فردانيّة! العبادة، الّتي هي عصب الحياة المسيحيّة، مثلاً، لا يجوز ولا يليق أن تكون عبر الوسيلة الإعلاميّة. إذا ما كان هناك عَجَزة أو مُقعَدون يتعزّون بصلاة تُنقَل عبر الأثير فليس هذا مبرِّرًا لاعتماد سياسة شركة العبادة الإيهاميّة عبر شاشة التّلفزيون أو المذياع!

هناك أجيال، بكلّ أسف، تنشأ على الاكتفاء بكنيسة الشّاشة الصّغيرة! ثمّ اصطناع الصّلاة عبر الأثير ممارسةٌ أشنع! أنت تدعو النّاس إلى الصّلاة أو تصلّي مع الآخرين، لكنْ لا يجوز لك أن تمثِّل الصّلاةَ تمثيلاً للعَرْض! مجرّد أن تعي أنّك تؤدّي الصّلاة من أجل أن تنقلها الكاميرا أو آلةُ التّسجيل، مجرّد أن تعي أنّك تمثِّل الصّلاة، كما على المرسح، يجعل روح الصّلاة يهرب منك، ولا يترك لك غير العواطف والانفعالات! تستحيل ممثِّلاً! الوقوع في فخّ الكنيسة الدّهريّة الانطباعيّة شأن خطير!

     إلى ذلك، ثمّة ممارسات خطرة مؤذية عديدة يتعاطاها الإعلام المسيحيّ. دونك فكرة التّعريف بقدّيسين أو بمرشّحين لإعلان القداسة. بإمكانك، بسهولة، أن تتحوّل من مجرّد التّعريف بهم إلى الدّعاية لهم، إلى ضربٍ من الشّحن العاطفيّ لصالح هذا أو ذاك من الشّخصيّات الكنسيّة! لا شكّ، في هذا السّياق، أنّ صناعة الأفلام تزيد من حدّة الوقع النّفسيّ الانفعاليّ للعروض الخاصة بهذه الشّخصيّات في وجدان النّاس. هذا، ولو بدا محبَّذًا ومستساغًا، فإنّه سيف ذو حدَّين! الرّوح، لمَن يسلك في الرّوح، هو مَن يشير ويعرِّف بقداسة هذا أو ذاك من المؤمنين السّالكين بالرّوح والحق! فإذا ما أمطر الإعلام المسيحيّ المشاهدين والسّامعين بالدّعاية لهذا أو لذاك من عباد الله، فإنّ هذا يلغي، بسهولة، دورَ روح الرّبّ في توجيه المؤمنين صوب معارج عمل الرّوح، فَنَلقى أنفسَنا، بيسر، أمام قدّيسين وأبرار من صنع الإعلام، إعلاميّين، بمعنى، وفي هذا إمعان في الاستعاضة عن كنيسة الرّوح القدس بكنيسة نفسانيّة إعلاميّة. أيّ فرق، إذ ذاك، يبقى بين قدّيسي الله الّذين نُعِدّ النّاس لاقتبالهم إعلاميًّا، والمطربين الّذي يُطلب إلينا، عبر الأثير، أن ندلي بأصواتنا لصالحهم ليحوزوا الجوائز الأولى في الغناء والطّرب؟!

     كلّ هذا، في نظرنا، يستدعي التّنبّه للحدود الّتي ينبغي علينا أن نَلزمها لكي نقف ممّا يقدّمه لنا العالم، من وسائل، موقفًا إيمانيًّا واعيًا قويمًا، ولا نفسح في المجال للرّوح العالميّة أن تتسلّل إلينا، لئلا نقضي على عمل روح الرّبّ فينا وفيما بيننا! لعمري، هذا يستدعي صحوًا ونضجًا وتواضع قلب واستقامة إيمان، يتيح لنا تمييز الأرواح لئلاّ نجدنا عرضة لخبط روح الضّلال وهبوب رياح المفاسد تحت جنح العصرنة واقتبال كلّ جديد مشبوه في هذا الدّهر بديلاً عن العنصرة الّتي عُمِّدنا فيها لنستكين إليها، شهودًا، بروح الله!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share