… وتمتلئ الأرض من معرفة الرّبّ!

mjoa Monday October 14, 2013 166

لا صدفة عند ربّك. هو الضّابط الكلّ، لا بمعنى أنّه يسيِّر كلّ شيء، ومن ثمّ كلُّ شيء لديه مقدَّرٌ سَلَفًا ومرسومٌ مُسْبَقًا، بل بمعنى أنّه ليس ثمّة ما يخرج عن قصده وتدبيره للكون. أمَا ينفي ذلك حرّيّة خَلْقِه؟ كلاّ، أبدًا! ينفي أن يحدث أيُّ أمر صدفةً.

     أمّا الحرّيّة فلا تتحقّق، أصلاً، إلاّ في إطار عمل ربِّك، ضابطًا للكلّ! كيف ذلك؟ لأنّ الحرّيّة، عند ربّك، تحديدًا، تعني شيئًا، فيما تعني الحرّيّة، لبني البشر، في التّعاطي الدّهريّ المشيَّع، شيئًا آخر. الحرّيّة، بعدما خرج آدم وحوّاء من الفردوس، غيرُ الحرّيّة الّتي تمتّعا بها عندما كانا فيه. في وجدان إنسان اليوم، الإنسانِ الدّهريّ، إنسانِ ما بعد الإخراج من الفردوس، إنسانِ السّقوط، الحرّيّةُ موضوعُ خيار. أن تختار هذا اللّون من الطّعام أو العمل أو الدّراسة أو الرّحلات أو العلاقات، أو ما شاكل، دون ذاك، فيما الحرّيّة، عند ربّك، هي أن تطلب أن تُحبّ. الله حرٌّ، مُطلقًا، لأنّه محبّة، ولأنّه محبّةٌ خلقك ولم يكن ثمّة سببٌ آخر لِخَلْقِك، وعلى صورة حرّيّته ومثال محبّته خلقَك! هذان الميلان عميقان فيك! أمّا الحرّيّة، كخيار، فجاءت إثر السّقوط، بعدما أكل المرء من شجرة معرفة الخير والشّرّ، وخَبِرَ الشّرّ، أو قل الخطيئة. كلُّ خيار يضغطك، في حياتك، يُردّد صدى خطيئة، خَبِرتَها، في قلبك، أو يحدِّث عن بذور الخطيئة فيك!

     الله، وامتدادًا ملائكتُه وقدّيسوه، لا خيار لديه بين خير وشرّ! الله كلّه خيرٌ ولا أثر فيه للشّرّ. لا يعرف الخطيئة بالخبرة. لكنّه يعرف ماهيّتها، بالرّوح. بالإشعاع الكيانيّ ينكشف جوهر الخطيئة لعينيه دون أن يتلوّث الرّوحُ بها في شيء! الله “يعلم كلّ شيء” (1 يوحنّا 3: 20)! لو لم يكن الرّبّ الإله كذلك ما كان بإمكانه أن يخلق شجرة معرفة الخير والشّرّ. وهذه خلقها، وَفْق قصده، لا لأنّه شاء للإنسان أن يتمرَّغ في أوحال الخطيئة ومعاناة الألم وأن يموت، بل لأنّه شاء للإنسان أن يصير نظيرَه، أن يحبّ بمحبّته، أن يصير امتدادًا لمحبّة الله، أو، بالأحرى، لله المحبّة، متى تَكَمَّل في الحرّيّة، أن يحيا في إزائيّة المحبّة، وأن تكون له، في إزائيّة المحبّة هذه، حياة أبديّة! وهذه، لتتكمّل، كشجرة حياةٍ، جعله ربُّه في الفردوس وزوّده بوصيّةِ طاعة. “وأوصى الرّبُّ الإله آدم قائلاً: من جميع شجر الجنّة تأكل أكلاً، وأمّا شجرة معرفة الخير والشّرّ فلا تأكل منها، لأنّك يوم تأكل منها موتًا تموت” (تكوين 2: 16 – 17)!

     لم تكن الطّاعةُ لتحفظه من الموت وحسب، بل، بالأَولى، لتأتي به إلى كمال حرّيّته، إلى التّملّؤ من محبّة الله، إلى التّوحّد بالله عن إرادة، إلى التّألّه! فقط، إذ ذاك، كان ليكون بإمكانه أن يأكل من ثمار شجرة معرفة الخير والشّرّ، أن يعرف ماهية الشّرّ بإشعاع روح ربّه فيه، كإلهه، دون أن يقع في خبرة الشّرّ ودون أن يسدِّد أجرة الخطيئة موتًا! في المبدأ، خبرةُ الخطيئة والموت، للإنسان، لم تكن حتميّة! ولكنْ، هكذا تكوّن، ولمّا يَكُنْ أمامه سوى أحد طريقَين: إمّا أن يسلك، بإرادته، في محبّة الله، فيحيا ويتألّه، وإمّا أن يسلك، بإرادته، في محبّة الذّات، الّتي هي الخطيئة، فيموت ويهلك إلى الأبد!

     على أنّ ربَّنا عرف، بسابق معرفته، ما سيقع فيه الإنسان، ولمّا يُعْفِه من الخطيئة والألم والموت. السّبب لم يكن ولا يمكن أن يكون أنّ الله شاء له المعاناة قصاصًا والموت عقابًا! لا المحبّة تقاصِص ولا هي تعاقِب! فقط تؤدّب برحمة وتربّي! الحرّيّة، وإن كانت شرطًا للمحبّة، فإنّ صاحبها قابل للشّرود والتّوغّل، بالخطيئة، عنها، إلى بلاد بعيدة عن الله، ومن ثمّ لخسرانها (أي الحرّيّة). سقوط الإنسان، إذًا، من عَمَلِه هو لا من عمل الله. وسقوطُه حَرَمَه حرّيّتَه الحقّ. مَن يصنع الخطيئةَ يصير عبدًا للخطيئة! أمّا الله فشاء، بالتّدبير، أن يستردّه بالنّاموس والأنبياء وتجسُّدِ ابن الله والصّليب، وصولاً إلى شركة القيامة، بالعنصرة، والصّعود والتّألّه!

     القولة الجديدة الّتي بثّها اللهُ الإنسانَ، في مقابل ما قاله لآدم في الفردوس كانت: “إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فليُنكر نفسَه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني” (لوقا 9: 22)! قصْدُ الله، أبدًا، كان الخلاص. الطّاعة، بالوصيّة، في الفردوس، لم تكن مكلفة! أمّا وقد سقط الإنسان، فالطّاعة، لا زالت، طبعًا، مطلوبةً، لكنّها أضحت مكلفة موتًا! صار على الإنسان، لِيَخْلص، أن يكابد صليبَ اتّباعِ مسيح الرّبّ في وصاياه… كلّ يوم! خطيئة الإنسان أوجبت مكابدته الصّليب! لم يعد ممكنًا له أن يحقّق حرّيّته ويقتني محبّة الله إلاّ بالصّليب! “أعطِ دمًا وخذْ روحًا”!

     أمّا بعد، فالضّابط الكلّ، هذا تدبيره، من البداية إلى النّهاية. كلّ أمر عند ربّك، هادف، من أبسط الشّؤون إلى أعقدها. قصدُه يعتور كلّ تفصيل. لهذا السّبب لا مجال هناك للصّدفة! أن تحسب أنّ أمرًا يحدث بالصّدفة يتضمّن أنّك تلغي الله من أفق وجدانك، أو تتعاطاه على نحو غير قويم! أن تؤمن معناه أن تكون على مقاربة كيانيّة إلهيّة لكلّ شيء! أن تعرف أنّ لربّك، في ما يجري لك وللعالم، قصدًا! تفهم أو لا تفهم، ليس هذا ما ينبغي عليك أن تبحث عنه! قصدُ ربّك لا يطاله فهمُك! إصبع الله في كلّ حَدَث! ليس شيءٌ، إلهيًّا، بلا معنى! كلّ شيء جعلَه ربُّك للمنفعة! كلُّ شيء يعمل معًا للخير للّذين يحبّون الله! لا ما هو تافه، عند ربّك، إلاّ الخطيئة! فإن استغنيتَ عنه استحالت حياتُك كلُّها توافه! “باطل الأباطيل، الكلّ باطل”، قال الجامعة! “كلّ ما تحت الشّمس باطل”! لذا “ختام الأمر كلّه”، قال، “اتّق الله واحفظ وصاياه، لأنّ هذا هو الإنسان كلّه” (12: 13)!

     من هنا أنّ سبيلك هو أن تقبل ما يأتي عليك، كَمِن ربّك، فهمتَ أم لم تفهم! تُسْلِمُ إليه أمرَك في كلّ حال! تَرضى، تَقنع، تَسكت، لا تتذمّر، تشكر على كلّ شيء، تقيم على الرّجاء! جيِّد أن ينتظر المرء، بصمت، خلاص إلهه! اشكروا على كلّ شيء! في النّهاية تفهم، لا في البداية! لربّك غيرُ طرق وغيرُ منطق! يكفيك أن تفهم أنّ ربَّك يحبّك، وأنّك مريض بالخطيئة، وهو طبيبك، وأنّ لك في كلّ ما يأتي عليك علاجًا! روِّض نفسك على التّسليم تَسْلَمْ! إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا!

     أَودِعْ نفسَك يَدَي ربّك فإنّه يعتني بك حتّى في أقلّ التّفاصيل. “يُرسل ملائكته فيحفظونك فلا ترتطم بحجر رجْلُك”! أنت إليه كبؤبؤ العين وأغلى! ما كان ليتجسّد لو لم تكن لديه ولا أثمن! “هكذا أحبّ الله العالم حتّى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلُّ مَن يؤمنُ به، بل تكون له الحياة الأبديّة” (يوحنّا 3: 16)! فقط إذ ذاك تمتلئ أرضُك من معرفة ربّك روحًا! حتّى موتُك، في الجسد، يجعله ربُّك، لك، توظيفًا كريمًا لخيرك، لا بل أعظم العطيّة للتّنقية والمحبّة، بالتّسليم لإلهك، نحو الحياة الأبديّة، ذروةِ التّسليم! “في يديك أستودع روحي”!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share