لدولة مدنيّة تحمي الجميع

mjoa Wednesday November 6, 2013 107

يستغرب بعضهم تنامي الخطاب الطائفي والمذهبي في بلاد المشرق العربي كافة، في مقابل اضمحلال الخطاب الوطني الجامع، والخطاب القومي العابر للحدود. غير أنّ واقع الحال يفيدنا بأن هذا الاستغراب غير منطقي، وبأنّ هيمنة الخطاب التقسيميّ ليست سوى نتيجة حتمية لإخفاقات عديدة شهدتها هذه البلاد منذ انفراط عقد الدولة العثمانيّة، ونشوء الدول العربية الوطنية أو القومية أو القُطرية.

لا ريب أنّ فشل تأسيس “دولة”، بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من دلالات، هو أهمّ هذه الإخفاقات. فنحن لم نشهد عبر القرن الماضي سوى دول تحكمها أنظمة ديكتاتورية فاسدة، عسكرية أو حزبية أو ملكية غير دستورية، تقيّد الحريات العامة بذريعة التفرّغ للقضايا الكبرى وعلى رأسها قضية فلسطين المحتلة.

هذا الفشل أدى إلى تغذية التطرّف الديني، وإلى تنامي الحركات الداعية إلى ما يسمّى “الحلّ الإسلامي”، والتي لا تقلّ ديكتاتورية وفساداً عن الأنظمة التي تودّ الحلول محلّها.

ليس لبنان حالة استثنائية ضمن هذا المشهد العربي العام، ونظامه لا يقلّ فساداً عن سواه من الأنظمة. فديكتاتورية الطوائف شكّلت العائق الأكبر أمام قيام الدولة العصرية، وأتاحت لكل طائفة أن تتمتّع بكامل حقوقها على حساب حقوق المواطن الفرد المسلوبة باسم الحفاظ على ما يسمّى العيش المشترك. ثم ينبغي ألاّ ننسى أن الحروب الداخلية كلها، منذ قرنين إلى يومنا الحاضر، وجدت في الطائفية وقوداً صالحاً لإشعال فتائل الفتن بين أبناء الوطن الواحد وتأجيجها.

ما تشهده بلادنا هو نتيجة منطقيّة لما أخفقنا في تحقيقه عبر قرن من الزمان، أي في صنع دولة المواطنة والمؤسسات والقانون. أخفقنا في صنع دولة تذود عن حقوق المواطنين وحرياتهم العامة، لا عن فساد السلطات القائمة أو عن “حقوق الطوائف”. أخفقنا في صنع دولة يجد فيها كل المواطنين أنفسهم ينتمون إليها من دون الشعور بالغبن أو بالاضطهاد. أخفقنا في صنع دولة لا يكفر بها أحد لأنّه لا ينتمي إلى مذهب المهيمنين عليها، أو إلى إحدى الطوائف الكبرى التي تحتكر السلطات القائمة فيها.

بيد أنّ ما يثير الاستغراب إنّما هو إيمان بعضهم بجدوى الحلول الطائفية والمذهبية للمشاكل التي تعصف ببلادنا، فلا يمكن معالجة الداء الطائفي بمزيد من الطائفية. لذلك الحكم الديني، أو حكم التحاصص الطائفي، ليس حلاً معقولاً، بل سوف يفاقم المشاكل. وما يثير الاستغراب أيضاً هو التعويل على الأنظمة القائمة لحماية الوجود “المسيحي”، أو لحماية “الأقلّيات”، والداعون إليه إنّما يضربون بعرض الحائط القيم المسيحية والإنسانية التي تتعارض وقمع الحرّيات الذي تمارسه هذه الأنظمة. فكان الأحرى بهؤلاء الداعين أن يقفوا في وجه هذه الأنظمة لا أن يستجدوا الحماية منها.

لا يتناغم الكلام على الدولة المدنية الديموقراطية مع المطالبة بـ”حقوق المسيحيّين” أو سواهم، ولا مع العمل لإقرار قانون انتخاب تنتخب بموجبه كلّ طائفة من الطوائف نوابها… ولا يستقيم الكلام على الدولة المدنية مع السعي إلى إقامة الدولة الدينيّة، أو مع المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية وحدودها. وليست دولة مدنيّة تلك الدولة التي يحكمها نظام ديكتاتوري تحت لواء علمانية زائفة… آن الأوان لبناء الدولة المدنية التي تحمي الجميع.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share