في الطاعة

mjoa Monday February 17, 2014 191

الكلام على الطاعة، ولا سيّما طاعة الرؤساء في الجماعة، له، في زماننا، تفاسير عدّة. وهذه، بمعظمها، ترتدي ثوبًا فضفاضًا بإعلائها المراتب كما لو أنّ الكنيسة طبقات: طبقة فوق، وأخرى تحت! أين الحقّ حقًّا؟ هذا ما سنحاول استجلاءه في سطور قد تبدو، لعيون بعض، ظباء ساربةً في غير مرعاها!

كلّ تعليم عن الطاعة في الجماعة، أتى به تراثنا، حكمه اعتبار أنّ المجد لله. إن مسكنا “كتابنا” وقرأنا فيه، لا يُشعرنا أيّ سطر منه، كلمة أو حرف، بأنّ الجماعات المؤمنة كانت، غضّةً، رخيصة الوعي، فقيرة الرؤية، غريبة المقاصد. حتّى الذين أسّسوا الجماعات في غير صقع، لم يخالطهم غرور أن يثبت أحدهم نفسه. لم يستغلّوا موقعهم. لم ينتشوا بإنجازاتهم. ولكنّهم آثروا أن ينحجبوا دائمًا، أي أن يرتدوا ثوب الحداد على كلّ مجد فانٍ في الأرض، ليظهر الله وحده. أجل، ماتوا عن العالم، عن شهوة هذا العالم الذي خبروه أنّه، كالنبات الأخضر، لا بقاء له. وهذا، لعمري، كلّه وعي أنّ الله هنا. لقد حرّرهم وعيهم أنّ الله هنا من أن يسقطوا في فخّ ظلم ذواتهم بإعلاء لحم ودم، أي أن يَعتبروا أنفسَهم شيئًا في عيني أنفسهم. الله هنا، عنت لهم أنّهم “عبيد لا خير فيهم” (لوقا 17: 10). لا يصدع أمرٌ بالحقّ مثل إخلاء الذات!

لن نستعرض، هنا، ما يقوله العهد الجديد كلّه. فقط، سنكتفي بإيراد وصيّة تطلب طاعة الرؤساء علنًا، ونستجدي معانيها. وهذه: “أطيعوا رؤساءكم واخضعوا لهم، لأنّهم يسهرون على نفوسكم سهر مَنْ يحاسب عليها، ليعملوا ذلك بفرح، لا بحسرة يكون لكم فيها خسران” (عبرانيّين 13: 17).

حتّى لا يحسب حاسب أنّنا نبدأ من أنفسنا، نرى، توخّيًا لإبراز معنى هذه الوصيّة الحقّ، أن نقرأ، علنًا، الآيتين اللتين تلتاها. فكاتب الرسالة إلى العبرانيّين، بعد أن قال كلامه الأوّل، تابع توًّا: “صلّوا من أجلنا فإنّنا واثقون أنّ ضميرنا صالح وأنّنا نرغب في السير في كلّ أمر. أسألكم ذلك بإلحاح، لأردّ إليكم في أسرع وقت” (13: 18 و19). ويبدو، في هذا الكلام التابع، أنّ الرسول، الذي أصرّ على أن يظهر فقره إلى جماعة الإخوة، أوصى ما أوصى به فيما هو بعيد. هل ثمّة علاقة تجمع ما بين هذه الآيات الثلاث؟ لنرَ!

تعوّدنا، في المرّات التي يذكّر فيه الرسول قرّاءه بأنّه بعيد، أن ننتظر أمرًا من أمرين. إمّا عبارات تفصح عن شوقه إلى مَنْ يراسلهم (أنظر مثلاً: رومية 1: 13، 15: 24؛ فيلبّي 2: 24؛ 1تيموثاوس 3: 14) أو عن أزمة ما، تؤلمه، يريد حلّها الآن (أنظر أيضًا: 1كورنثوس 4: 18-21؛ 2كورنثوس 2: 1، 12: 18). ماذا نرى في ما قرأناه هنا، أشوقًا أم أزمة؟ ربّما كلا الأمرين. هذا الترجيح سببه أنّ عبارة “أسألكم ذلك بإلحاح”، التي تختم المقطع كلّه، لا يمنع قربها من طلبه أن يصلّوا له من أن تشمل كلامه على طاعة الرؤساء أيضًا.

إذًا، سألهم أن يطيعوا رؤساءهم، بإلحاح، فيما هو بعيد. هل شعر بأنّهم يعثرون في الطاعة؟ هل ألمه أنّ بعضًا، في الجماعة، يطيعون في حضوره، ويعصون في غيابه؟ لا نعلم. ربّما! لكن، إن كان هذا ألمه فعلاً، فثمّة سؤال واجب يطرح ذاته علينا بإلحاح أيضًا. وهذا: أين الله في كلام الرسول على الطاعة؟

إذا قرأنا ما نقلناه بتؤدة، لا يفوتنا أنّ ما قاله بولس يذهب كلّه في اتّجاه الله، أو يأتي منه. لقد قال إنّ على المؤمنين أن يطيعوا رؤساءهم. وفسّر قوله بوصفه الرؤساء بأنّهم الذين يسهرون عليهم، أي الذين يحيون عمرهم وعيًا أنّ الربّ قريب (متّى 24: 42). وهذا، صفةً في مسؤولين يعرفهم، توصية عامّة. إنّها إلى المسؤولين، ليبقى وعيهم دفعًا إلى أن يطاع خوف الله فيهم. وإلى المؤمنين، ليطيعوا الفضيلة الظاهرة في رؤسائهم. لا يعطينا كلامه حقّ أن نسقط عليه أنّه ينادي بطاعة عمياء. ليس في العهد الجديد كلّه من دعوة إلى فضيلة غير واعية. هذا يلغي أنّ الله هنا، أي أنّه قريب في ما يهبه من خير وتاليًا في حضوره الأخير. ويجب أن نلاحظ أنّ الرسول، بما قاله، لم يرفّع نفسه على الكنيسة التي يخاطبها، بل وضع نفسه في نطاق كلامه بطلبه أن يصلّي المؤمنون جميعهم له. بلى، لقد اعترف بأنّ ضميره صالح. ولكنّه ضمّن اعترافه أنّ صلاتهم تحتضنه، ليكمل، هو أيضًا، ما رجاه فيهم. وهذه دعوة أخويّة تنادي الجماعة كلّها إلى أن تفطن إلى أنّ أحدًا لا يقدر على أن يخلص بقدرته الذاتيّة. فالطاعة، أي “الرغبة في السير في كلّ أمر”، غير ممكنة، واقعيًّا، إن لم يرفع الإخوة بعضهم بعضًا ذبيحةً إلى الله. هل بما قاله الرسول عن نفسه قصد أن يوصي الرؤساء، فحسب، بأن يظهروا فقرهم إلى صلاة الإخوة؟ على كون هذا مرجّحًا كثيرًا (فالعبارة، كما لاحظنا، تستكمل كلامه على طاعة الرؤساء)، يجب أن نبقى نراه يخاطب الكلّ في آن واحد. وهذا، الذي يمجّ إعلاء كلّ سلطة لحم ودم، يعلّي سلطان المحبّة التي لا يزاحمها شيء، إن في الأرض أو في السماء. أي هذا هو التضافر الذي يدلّ على أنّ الله هو فوق الجميع حقًّا (أفسس 1: 22). أي هذه الكنيسة الواحدة التي تطيع الله في كلّ شيء، ليبقى هو، وحده، “الكلّ في الكلّ” (1كورنثوس 15: 28).

لا يليق بنا أن نختم هذه السطور العجلة قَبْلَ أن نطرح، بعدُ، هذا السؤال: هل اضطرّ الرسول إلى قوله رؤساء رآهم يتبجّحون بطلب أن يُطاعوا؟ لا أعتقد أن كلامه يسمح لنا بأن نرى الأمر كذلك. فما قرأناه، بيّن أنّه رأى أنّ رؤساء الجماعة، التي يخاطبها، يستحقّون أن تُطاع فضائلهم، أي رآهم إيقونةً للمسيح الذي أخلى ذاته (فيلبّي 2: 6- 11)، فشهد لحقّ الله فيهم. يبقى أن نعتبر، لتعمّ الطاعة للحقّ!

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share