أن نحيا أخويًّا

mjoa Thursday March 13, 2014 253

كلّ ما في الحياة الكنسيّة وُجد، لنقوى في المحبّة التي هي غاية حياتنا في المسيح.

في التراث المسيحيّ، الذين لا يحيون القوّة في المحبّة، لا نصيب لهم في الحياة الأبديّة. هذا، الذي يفهمنا أنّ حياتنا في المسيح جوهرها كلّه أن نحبّ، يفهمنا، تاليًا، أنّ الأبد كلّه محبّة. كلّه كلّه. فمن النوافل التذكير أنّ أدب “البرّيّة” وَصَفَ الجحيم بأنّها أناس يعلمون بعضهم بوجود بعض إنّما لا أحد منهم يقدر على أن يرى وجه الآخرين. وهذه الذكرى تزيدنا فهمًا أنّ السماء وجوه. وجوه تتلاقى حبًّا. وجوه قبلت، في هذه الحياة الدنيا، أن تكوّنها أنوار مسيح الله. وجوه رمت وجهها، وارتضت وجه مسيح الله وجهًا!

في مطلع التزامي الكنسيّ، سمعت أحد الإخوة المعتبَرين يقول بثقة ما زالت أمام عينيّ: “إنّ الله الآب، في اليوم الأخير، لن يضمّ إلى صدره سوى الذين يراهم يشبهون ابنه الوحيد”. أذكر، تمامًا، أنّه كان يتكلّم على “ميراث الحياة الأبديّة”. انتفض أحد الذين كانوا معنا، وسأله: “إذًا، ومَن يستطيع أن يخلص؟”. أكمل المعتبَر ثقته بقوله: “مَن يرتضي وجه ابن الله وجهًا”! كانت هذه الجملة الأخيرة، (بل كلّ ما قاله)، أقوى من إدراكي. ولكنّني لم أحرم نفسي أن أتمتّع بالنور الذي ينبعث منها. كانت صعبةً إنّما نورها بدا كما لو أنّنا في دنيا  “لا تحتاج إلى شمس أو قمر” (رؤيا يوحنّا ٢١: ٢٣)! فوسّعت لها، على وضاعتي في الفهم، مكانًا رحبًا في قلبي. ثمّ فهمت. أجل، أعطاني كَرَمُ ربّ الأيّام أن أفهم أنّ ما هدف إليه أخونا هو، عينًا، ما جعله ربّنا وصيّته العظمى (أنظر: متّى ٢٢: ٣٦-٤٠). فالإنسان، على أنّه فريد ومميّز، يعطيه التزامه المحبّة، محبّة الله والإخوة، أن يكتسب وجهُهُ وجهَ الكلمة، ابن الله الوحيد، في تعابيره الفذّة.

قلت: “كلّ ما في الحياة الكنسيّة…”. وعنيت كلّ ما فيها بتفصيلها وتفاصيلها. الصلاة جماعيّةً أو فرديّة. قراءة الكلمة. الصوم. الخدمة. التعليم. الوعظ. ما يسمّيه الأب ألكسندر (شميمن) “النصح الرعائيّ”. الأبوّة الروحيّة… هذه كلّها، وكلٌّ منها، إن لم تكن المحبّة هدفًا وحيدًا لها، فسيكون لها هدف آخر لا علاقة له ببنياننا بالله وبنيان كنيستنا. وهذا ما سأحاول تبيانه بأخذي، نموذجًا، “الأبوّة الروحيّة”.

أيضًـا مثل. منذ مدّة، سمعت أخًا يقول: “هدف الأبوّة الروحيّة أن يزداد كلّ منّا ارتباطًا في حياة كنيسة رعيّته”. كنّا بعض أشخاص مجتمعين. فسأله أحدنا إن كان يقصد حصر ممارسة الاعتراف بكاهن الرعيّة. أجابه: “ليس في تراثنا ما يلزمنا بهذا الحصر. لكنّنا، أينما اعترفنا، يجب أن نقوى في محبّتنا للذين نحيا وإيّاهم في مكان واحد”. كان واضحًا أنّه لا يساير أمرًا كلّنا نراه شرعيًّا، أي أنّ كثيرين بيننا اعتنقوا أن يعترفوا بخطاياهم أمام كهنة رهبان، بل يكشف الحقّ الذي يأبى أيّ تنافر ما بين المدينة والبرّيّة.

لا أتكلّم على أهل كوكب آخر إن ذكرت أنّ ثمّة إخوةً بيننا يَظهرون أنّهم لا يفهمون معنى أنّنا كلّنا إخوة. هل من مَثل على ذلك؟ ثمّة أمثلة. سأكتفي بذكر أنّهم يقبلون الكلمة من أفواه تقنعهم، حصرًا. وهذا، الذي لا يقول المحبّة كاملةً أي الوعي أنّ الربّ آخانا جميعنا بنعمته وتاليًا يمكنه أن يُظهر لنا حبّه من طريق أيّ إنسان، (هذا) لا يجعلنا نجنح، فقط، إلى جعل الكنيسة طبقات (بعضها فوق وبعضها تحت)، بل إلى نبذ مَن نعتبرهم (نحن) أدنى من سواهم. عندما أقصد أبًا روحيًّا، أراه ذا شأن، ربّما يغريني أن أعتبر نفسي ذا شأن. لا أعلم إن صدف أن قال أب روحيّ إلى ابنه (الروحيّ): “إنّي أتّخذك رحمةً”. لكنّنا لا نفهم شيئًا إن لم نشعر بأنّ هذا، كلّما ارتضى أبونا أن يلاقينا، هو ما علينا أن نسمعه، هو هو. ما من أمر يُحيي التزامي في كنيسة الله سوى أن أتواضع في سرّ قلبي أوّلاً، وأمام الله والإخوة دائمًا. لا أدّعي أنّ لي قدرةً على أن أكون حاضرًا في غير مكان! لكن بإمكاني أن أعلم أنّ الآباء الروحيّين، في أوان قبولهم الاعتراف، إنّما يتعاطون ما يصل إلى مسمعهم. هل أنكر القدرة على معرفة أمور من خارج عالم الألفاظ؟ لا، بل أتكلّم بعامّة. هذا يلزمنا أن نخاف من السقوط في جبّ التقوى التي لا تظهر إلاّ أمامنا، أو التي نعتقد، بشريًّا، أنّها موجودة. ما هو معيار التقوى الحقيقيّ؟ جعل تراثنا الإيمان يرادف التقوى.

أمّا الإيمان، فيفترض التصاقًا دائمًا بجماعة الإخوة. لا أفهم أخًا مؤمنًا، يلتزم الاعتراف أمام أب روحيّ وقور، يعتقد أنّ التزامه أباه يمكنه أن يكون بدلاً من غير وجه آخر. هذا ضدّ التقوى، أي ضدّ الإيمان الذي يُحيا في وسط الجماعة، وجهًا إلى وجه. ثمّة إخوة، إن اتّخذوا أبًا من آباء البرّيّة، يحسبون أنّ هذا يشرّع لهم أن يهجروا رعاياهم. لا أتكلّم هنا على الذين يُهيّأون للحياة الرهبانيّة، بل الذين لا يحسنون التمييز بين البرّيّة والمدينة، الذين لم يفهموا أنّنا نحجّ إلى الدير، لنغرف منه صدقًا يدعمنا حيث نحيا.

إن ردنا أن نحيا كنسيًّا، فسبيلنا أن نحيا أخويًّا. هذا التذكير به، مسؤوليّتنا جميعًا، كهنةً ورهبانًا وعلمانيّين. ولا أنسب إلى الله ما لا يقوله تراثه إن ذكرت أنّ معيار الحقّ في كلّ علاقة تجمع ابنًا روحيًّا بأبيه هو أنّ شأن الأب أن يساعد ابنه على أن يكمل حياة التوبة في المدى الذي يحيا فيه، يوميًّا، أي أن يساعده على أن يكتسب وجهه ملامح جماعيّة! هذا، فقط، يبعد عن الأبوّة أن تغدو هدفًا والبنوّة سِقطًا!

الجميل في ليتورجيا كنيستنا، وكلّ ما فيها جميل، أنّها تلقي رسائل العهد الجديد على جماعة “إخوة” يحيون معًا وجهًا إلى وجه. هذه رؤية العهد الجديد التي هي غاية كلّ رؤية (متّى ٢٣: ٨).

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share