المتروبوليت فيليبس صليبا علامة فارقة!

mjoa Saturday April 12, 2014 125

عرفتُه أوائل السّبعينات من القرن الفائت. عرفتُه، يومذاك، عن كثب. ثمّ أُوفدت إليه مطلع التّهجير، في أوّل الثّمانينات. الباقي كان مقدّمة إليه ومطالعة متقطّعة لوجهه وجُهده، عن بُعد، وكأنّ متن معرفة الرّجل لديّ اكتمل في أوقات تسنّى لي فيها أن أتسقّط، بنعمة الله، بعضًا من ومضات روح الله فيه!

     كنتُ غريبًا عن البيعة يوم فتح لي باب معرفة كنيسة المسيح! قالوا: اذهبْ إليه، سلْه، فإن يعطِك منحة يتسنّ لك أن تدخل ما لا قِبْل لك به، لاهوتَ العِلم والمسرى، ما لم أدرِ من أمره شيئًا؛ لذا ما كان لي أن تتوق إليه جوارحي! كان توقي إلى المجهول، وحسبي أنّه دفعني إليه بعضُ إحساس مبهم، لكنّه نفّاذ، بمسيح الرّبّ، وشيءٌ من حبّ المغامرة، وقليلُ أحلامٍ صبيانيّة من دنياك! اللّقاء الأوّل كان في فندق فينيسيا في بيروت. طويلَ القامة، طالعني، حليقَ الذّقن، في سترة وبنطال أسودين، وياقة بيضاء تخترق أعلى قميصه، ما لم أعتده في مظهر قوم الكنيسة عندنا! واثقَ الكلمة؛ له عين تجمع إلى النّسر لَطَفًا وابتسامة وحنوًّا! ما كان بحاجة إلى الكثير ليتّخذني تلميذًا. بحسِّه وبعض الوثائق وفّرتها، ما لبث أن دعاني إلى هناك. أقمت في معهد القدّيس فلاديمير ثلاث سنوات ويزيد. درست وانفتحتْ عيناي وتردّدت بين البقاء في تلك الدّيار والعودة إلى البيت الّذي منه خرجت. أخيرًا عدتُ؛ وكان لي الرّجلُ معوانًا في خروجي، كما كان في دخولي إليه! كيف أنسى الرّسالة المقتضبة الّتي زوّدني بها يومذاك: لا تنسني متى خلدتَ إلى الصّلاة في دير منسي! واعجباه! لم يكن واردًا، بعدُ، أن أصير إلى الرّهبانيّة!

     هذا شكل الرّواية، أمّا باطنها فانحفظ في حسّي، طالما يعسر على المرء أن يفضي بما استقرّ فيه من التماعات كيان لا تخبو! لكلّ سرُّ قلبه، وفي سرّي بعضٌ ممّا انبثّ من لقاءات والمتروبوليت فيليبس، رجل الله والأب!

     غيري يتكلّم على انجازات الرّجل. يكفيني أن أقول إنجازه فيّ! يحضرك باهتمامه بك دون أن يثقّل عليك. لا يغيب عنك ولو أخذته المشاغل. لا يترك مناسبة إلاّ يبثّك الشّعور بأنّه إليك. يبادر إلى السّؤال ولا ينسى. حاضرٌ أبًا وأمًّا معًا. كان يدعونا إليه، في داره، مرّتين في السّنة. ونلتقيه مرارًا في رعائيّات هنا وثمّة. ما كان يرانا إلاّ وتستقرّ عينُه علينا ودادًا. كان يحبّ ويعبِّر بلا تكلّف. بِكِبَر وعمق ورصانة. كان يحدِّث عن شبّان اللاّهوت؛ يقدِّمهم، وهم يكبون، بفخر واعتزاز! همّه كان أن يصنع رجالاً لله يرعون خراف العليّ! لعلّه كان يدري أو لا يدري أنّه كان يبثّنا مسيحه في روحه في تعاطيه إيّانا أفراخ خدّام لكنيسة الله!

     إن أنسى لا أنسى الجلسات إليه. إلى مواهبه الجمّة، كان إنسان قلب! وهذا، عندي، عين ما امتاز به. الفكر النّصوح، الكلمة المترفّقة، الإحاطة الدّافئة، الخطاب الجامع بين المعنى الطّيِّب والإحساس المرهف، القولة الدّافقة بشعور المودّة، على مسافة وعلى قربى، في آن معًا. كان محبًّا! ولعلّ في مرض القلب الّذي عاناه سنين تدبيرًا ليرسخ فيه جرح المحبّة المألومة، أبدًا، مشبوحةً على صليب العباد، حفظًا له من تجارب بهرج الحياة الدّنيا، وما أكثرها في البلاد الّتي أقام فيها!

     ما رسخ في ذهني منه كان الصّورة الّتي أضحت مثالاً للأب والقائد والمنظّم، على محبّة وغيرة وصلابة، في كنيسة المسيح!

     الرّجل، في عيني، كان صاحب رؤية أصيلة. الكنيسة الّتي أُقيم عليها كانت لها ضعفات كثيرة. لكنّه كان ينظر إلى البعيد، ويشدّ الكلّ إلى هناك. ولعلّه بدا، أحيانًا، على قسوة، وما كان، في العمق، عليها بل صارمًا أحيانًا! ثمّة أوقات تفرض عليك أن تَقلع وتَهدم وتَنقض لتبني وتغرس! والله ساهر، في عباده وخدّامه، على كلمته ليصنعها (إرميا النّبيّ 1)!

     كان رجلاً لله؟ لا شكّ في ذلك! بنى واحتضن وأنمى الكثيرين. عطاؤه كان بلا حدود. امتهن لملمة الباذلين والمبذولين لخدمة ربِّهم! يأخذ من هذا ليعطي ذاك، ويغرف من هنا ليملأ فجوات هناك! ملأ دنياه من أريج ربّه فيه! ثمّة قوم يصنعهم الآخرون وثمّة مَن يصنعون الآخرين! المتروبوليت فيليبس ساهم، بنعمة ربّه، في صناعة العديدين! وبعضهم نشأ عليه وتروّض على يديه وأخذ من روحه ليُسهم في صنع مَن جعلهم ربّهم أمانة لديه! إنّما الأجيال إلى الأجيال يشدّون بعضهم البعض إلى المسيح ليصير لهم الكلَّ في الكلّ! المتروبوليت فيليبس سمّره ربّه، بما جاد به عليه من مواهب وآلام، سمّره على صليب محبّته وخدمته، إذ كان يرى في نفسه مسيحًا حيًّا مبذولاً، كلّما تاقت نفسه إلى كِبَر هذا الدّهر شدّه حسُّ الموت اليوميّ إليه، إلى دركات الاتّضاع بإزاء ربّه! ظاهر الرّجل كان شديد البأس، لأنّ المسؤوليّة تدعو، أمّا، في قرارة نفسه، فعرف أن يُسلِم ذاته كضعيف في حضن ربّه!

     المتروبوليت فيليبس صليبا إنسان لله برسم الاكتشاف! توافقه الرّأي أو تخالفه، ما همّ؟ الاختلاف في الرّأي ينفع ولا يضير! المهمّ الرّؤية الواحدة! والمهمّ أنّ هذا الرّاعي الفذّ كان رجل أتعاب طالما كابدها في موزييك رعائيّ قاسٍ صلدٍ، ليعود فيخلد إلى نجاوى ربّه ويملأ مَعينه من عزائه ودفء محبّته وسلام عشرته ويتجدّد! لم يكن إنسانَ عمل جلود وحسب، كان إنسان صلاة، أوّلاً، في تشوّفه إلى وجه ربّه! والصّلاة صنو المعاناة! عند الشيخ بائيسيوس، الصّلاة بتأوّه، من أجل الآخرين، مهما كانت مقتضبة، تعادل ساعات من الصّلاة!

     سلام عليك يا خادمًا سيَّدَ ربَّه على نفسه بالوداد! إذ كنتُ أشاهد الصّلاة الجنائزيّة عليك، وأنت مسجّى في الوسط، كانت الكلمات والأنغام تتطاير يمينًا ويسارًا حولك! لا غرابة إن أخَذَنا المشهدُ بدمعة ومهابة ودعاء! لكن الأهمّ أنّك بتّ الآن كلمة من الكلمة! العجين انخبز، والخبزُ يُمَدّ ليأكل منه الأبناء الّذين أسهمتَ في إنشائهم! بورك المكان الّذي يحتضن بقاياك، وبوركت النّفوس الّتي تقبّلت رعايتك! ما تعبتَ فيه، باسم ربّك، ينمو الآن إلى خلاص يطال نفوس العديدين، ويطلّ على البراعم الآتية واثقين!

     شكرًا لله عليك، وعلى محبّتك، وعلى ما احتضنت به! ما انطوى لا يطويه الزّمن لأنّ الرّوح فيه! صغار يتعاقبون على ما أنشأه ربّك بك، وما كانوا ليتعاقبوا لو لم يصطفِك سيِّدك لتكون له خادمًا، هنا وثمّة، في ديار خرافه الشّاسعة!

     لا تنسنا في الصّلاة! لسنا ننساك! محبّتك لن تموت لأنّها من كبد ربِّك! أنطاكية كلّها مدينةٌ لله بك!

     إلى أن تضمّنا اللّقيا من جديد، نسأل الله أن تكون لنا منك، من روح ربّك فيك، سلالةٌ تمدّ ما باشرت به حتّى تثبت أنطاكية، هنا وعندك، في الرّوح والحقّ، إلى جيل بعد جيل!

     السّلام السّلام على السّابقين واللاّحقين من الخدّام والأحبّة الواثقين، والسّلام عليك يا أبانا في الآب السّماويّ مع الآباء والقدّيسين!

     رحلت في حدود البشارة فنلتقيك في وهج الفصح! في وجه يسوع المسيح (2 كور 4: 6)!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share