قداسة تستعجل الوحدة!

الأب جورج مسّوح Wednesday April 30, 2014 163

فرحنا لفرح إخوتنا الكاثوليك في العالم لمناسبة إعلان قداسة البابوين يوحنّا الثالث والعشرين ويوحنّا بولس الثاني. وهذا الفرح ينبع من نحو قرن من الحوار المسكونيّ في سبيل رأب الصدع واستعادة الوحدة ما بين المسيحيّين، ولا سيّما ما جرى بعد المجمع الفاتيكانيّ الثاني الذي أضفى روحًا جديدة على الكنيسة الكاثوليكيّة، بحيث بات بدهيًّا التمييز بين ما قبل المجمع وما بعده.

 

في الواقع، هذا الحدث ليس حدثًا عاديًّا، ولا عابرًا. ثمّة باباوان كبيران طبعا بشخصيّتيهما الكارزميّة مع اختلاف مواهبهما، تاريخ الكنيسة الغربيّة في نهاية القرن العشرين وبداءة القرن الحادي والعشرين. فالبابا يوحنّا الثالث والعشرون دعا إلى انعقاد المجمع الفاتيكانيّ الثاني، الذي استمرّت أعماله خمسة أعوام، والذي انبثقت منه دساتير وقوانين وقرارات وبيانات غيّرت وجه الكنيسة الكاثوليكيّة. أمّا البابا يوحنّا بولس الثاني، فقد أسهم، إلى أمور شتّى عديدة، في تحوّل أوروبّا الشرقيّة وتحرير شعوبها من الديكتاتوريّة الطاغية للأنظمة الشموليّة التي حكمتها إبّان القرن العشرين.

ليس شأننا أن نبحث عن الداعي إلى السرعة في إعلان قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، أو سواه، فـ”أهل مكّة أدرى بشعابها”. فهو ليس أوّل مَن تُعلن قداسته بهذه السرعة. فتاريخ الكنيسة، شرقًا وغربًا، حافل بمَن ارتأت الكنيسة عدم التردّد بإعلان قداستهم، وبخاصّة حين تتوافر الشهادات بشأنهم، وحين ينتشر إجلال المؤمنين وإكرامهم لقدّيسيهم الجدد الذين عرفوهم بالجسد، والتقوا بهم، وعاينوهم، وجالسوهم، وتبادلوا بعض العبارات معهم…

 

بيد أنّنا، في الآن عينه، نأسف لعدم قدرة البابوين يوحنّا الثالث والعشرين ويوحنّا بولس الثاني، لكونهما باباوين، ورؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة والبروتستانتيّة، من تحقيق الوحدة المنشودة بين المسيحيّين. فعلى الرغم من كلّ المبادرات الصادقة واللقاءات واللجان المشتركة، والجهود المبذولة، فإنّ الوحدة ما زالت بعيدة المنال. وهنا لا بدّ، أيضًا، من ذكر البابا الراحل بولس السادس والبطريرك القسطنطينيّ أثيناغوراس اللذين توصّلا إلى رفع الحرم المتبادل بين الكنيستين.

 

تقتضي الصراحة أن نعترف بأنّ العقبة الكبرى التي تحول دون الوصول إلى الوحدة المنظورة بين الكنيستين الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة، إنّما هي الخلاف على النظرة إلى موقع البابا، أسقف روما، وإلى سلطته في الكنيسة. وفي الواقع، لا يسع أيّ عالم في تاريخ الكنيسة أن يغفل أهمّ مسألة أدّت إلى الانشقاق، وهي الخلاف بين الشرق والغرب في شأن “الأوّليّة البابويّة”. فاللاهوت الأرثوذكسيّ يؤكّد أنّ البابا بين الأساقفة هو “الأوّل بين متساوين”، وليس له أيّ سلطان قانونيّ على البطريركيّات الأخرى.

 

لكن، في الغرب، تغلّب شيئًا فشيئًا مفهوم قانونيّ مخالف تمامًا للأوّليّة وفق النظرة الأرثوذكسيّة، بحيث نصّب البابا نفسه سلطةً مطلقةً تعيّن الأساقفة وتعزلهم في أصقاع الأرض كافّة، وباتت حقوق الأساقفة مجرّد مشاركة في “كمال السلطة” الرومانيّة. وقد كان في محلّه التوجّس الأرثوذكسيّ من النزوع البابويّ إلى إحكام سلطته على كلّ الكنائس. فما شاهدناه بعد الانشقاق الكبير (1054) من إحكام قبضة البابا على كلّ الكنائس في العالم إلى حدّ إعلان عقيدة “العصمة البابويّة” عام 1870. يؤكّد مخاوف الكنائس الشرقيّة المتمسّكة برئاسة الأسقف الأبرشيّ على كنيسته المحلّيّة.

 

يعتبر اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ أوليفييه كليمان (في كتابه “روما: نظرة أخرى، الأرثوذكسيّة والبابويّة”، تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة، ص 91) أنّ “أساس كلّ أوّليّة في الكنيسة هو المسيح وحده، المصلوب والقائم من بين الأموات، والمنتصر على الموت بالموت. المسيح هو وحده كاهن العهد الجديد الأعظم، الذي تعود له كلّ سلطة في السماء وعلى الأرض”. وتاليًا، “إنّ كلّ أوّليّة في الإنسانيّة المفتداة، وبخاصّة أوّليّة الأسقف في الكنيسة المحلّيّة، وأوّليّة المتروبوليت بين أساقفته، والبطريرك بين مطارنته، وأخيرًا أوّليّة الأسقف الأوّل، أسقف روما، ليست إلاّ صورة هشّة عن الأوّليّة التي كان الأب ليف (جيله) يلقّبها بالسيادة الـمُحبّة، أوّليّة الخدمة حتّى الشهادة، شهادة الدم والموت إذا اقتضى الأمر”.

وقد يكون إقرار البابا يوحنّا بولس الثاني بأنّ ما يطمح إليه مع الأرثوذكس هو “الشركة وليس السلطة”، الباب الحقيقيّ إلى استعادة الوحدة بين المسيحيّن. هكذا، يمكن الحديث عن العودة إلى الصورة التقليديّة للعلاقات بين الكنائس المبنيّة على استقلاليّة الكنائس المحلّيّة، والتي في كلّ منها يتحقّق ملء الكنيسة، والشركة بالقدسات (الإفخارستيّا) في ما بينها جميعها هي التي تجعلها واحدة، تجعلها جسد المسيح الواحد. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الخلاف الكاثوليكيّ-الأرثوذكسيّ في شأن موقع البابا في الكنيسة العالميّة، يجب ألاّ يمنع السعي إلى حلّ الخلافات الأخرى ذات الطابع العقائديّ، أو الخلافات التي يمكن تجاوزها على الصعيد المحلّيّ…

 

نرجو إلى اللَّه أن يتمّ تحقيق الوحدة بين المسيحيّين في عهد البابا فرانشيسكو ذي الشخصيّة الكارزميّة القريبة من الناس بشرائحهم كافّة. فمع احترامنا العميق لإعلان قداسة البابوين يوحنّا ويوحنّا بولس، فإنّنا نتوق إلى قدّيسين جدد يكون سبب إعلان قداستهم أنّهم حقّقوا هذه الوحدة وحسب، حقّقوا وحدة تكون “عيدًا لأوّلنا وآخرنا”. رجاؤنا أن يكون البابا فرانشيسكو هو رائد الوحدة، وأوّل القدّيسين المشتركين بعد انقضاء نحو ألف عام من الانشقاق.

 

مجلة النور، العدد الثالث 2014، ص 114-115

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share