ليس صدفةً أن تنتقي الكنيسة ثلاث قراءات من إنجيل القدّيس يوحنّا، كي تتلوها في ثلاثة آحاد من زمن بعد الفصح المجيد، الأحد الثالث والرابع والخامس، يحضر فيها كلّها موضوع الماء. فمع اقترابنا من عيد العنصرة، عيد حلول الروح القدس على التلاميذ، تهيّئنا الكنيسة لاستقبال الروح القدس، ولتذكيرنا بفعل الروح القدس التقديسيّ في العالم، أي سرّ المعموديّة. اليوم، الأحد الثالث، ثمّة بركة بيت حسدا حين ينزل فيها المرضى يشفون. في الأحد الرابع، أحد السامريّة، ثمّة بئر يعقوب وحديث الربّ يسوع مع المرأة السامريّة عن “الماء الحيّ”. في الأحد الخامس، أحد الأعمى منذ مولده، ثمّة بركة سلوام التي حين اغتسل فيها الأعمى بأمر من الربّ يسوع شُفي.
يعتبر أوغسطينُس المغبوط أسقف هيبّون (+430) أنّ البركة التي لها خمسة أروقة تشير إلى الشعب، فيما الأروقة تشير إلى أسفار الشريعة الخمسة التي “كانت تدين الخطأة، لكنّها لم تغفر خطاياهم”. فكاتب سِفر “رؤيا يوحنّا” يوضح أنّ الشعوب تُذكر باسم “المياه” فيقول: “إنّ المياه التي رأيت هي شعوب وجموع، وأمم وألسنةٌ” (رؤيا 17، 15). لذلك، نال بعضهم الشفاء في البركة، فيما عجزت الأروقة عن منحهم الشفاء. فالمسيح هو الذي جاء بنفسه متجسدًا، فقام بأعمال عظيمة، وتفوّه بتعليم عظيم، فحرّك الخطأة إلى التوبة والمعموديّة. وهكذا يخلص أوغسطينس إلى القول بأنّ النزول إلى الماء المحرَّك هو الإيمان، ببساطة وتواضع، بالربّ وبأعماله.
يتساءل القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (+407) عن أيّ نوع من الشفاء أراد الربّ أن يلفتنا إليه، وهو نفسه يجيب قائلاً: “كانت المعموديّة على وشك أن تعطى، وكان فيها قدرة كبيرة، وعطيّة عظمى. إنّها معموديّة تطهّر من كلّ خطيئة، وتجعلنا أحياء بعد أن كنّا أمواتًا. هذه الأمور صُوِّرت من قبل بصورة البركة. حدثت هذه المعجزة ليتعلّم الذين في البركة، مع مرور الأيّام، كيفيّة شفاء أمراض الجسد بالماء، ويؤمنوا، بيُسر، بأنّ الماء يشفي أمراض النفس أيضًا”. شفاء النفس من الخطيئة أهمّ بكثير من شفاء الجسد، فشفاء الجسد يتمّ إلى حين، أمّا شفاء النفس فيفتح الباب إلى الحياة الأبديّة. وهذا يتمّ في المعموديّة.
يجري أحد الآباء مقارنة عميقة ما بين مياه بيت حسدا ومياه المعموديّة، فيقول إنّ مياه بيت حسدا كانت تتحرّك مرّة في السنة، أمّا مياه معموديّة الكنيسة فيمكنها أن تتحرّك دومًا. كانت تلك المياه تتحرّك في مكان واحد فقط، أمّا مياه المعموديّة فتتحرّك في كلّ مكان من العالم. هناك كان ملاك ينزل، وهنا ينزل الروح القدس. هناك كانت نعمة الملاك، والآن يتجلّى سرّ الثالوث الأقدس. تلك المياه كانت تشفي الجسد، أمّا هذه فتشفي الجسد والنفس معًا. تلك المياه كانت تعيد الصحّة، أمّا هذه فتشفي من الخطيئة.
في السياق ذاته، يقول القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو (+397): “كان للناس علامةٌ، أمّا أنتم فلكم الإيمان. عليهم كان ينزل ملاكٌ، وعليكم ينزل الروح القدس. لأجلهم كانت الخليقة تتحرّك، ولأجلكم يعمل المسيح نفسه ربّ الخليقة. آنذاك، واحد فقط كان ينال الشفاء. والآن يصبح الجميع أصحاء. تلك البركة كانت رمزًا لتؤمنوا بأنّ قوّة الله تنزل على هذا الجرن (جرن المعموديّة)”. ويرى أمبروسيوس نفسه أنّ نزول الملاك يرمز إلى “نزول الروح القدس الذي ينزل في أيّامنا ويقدّس المياه التي تحرّكها صلاة الكاهن. في ذلك الوقت، كان الملاك خادمًا للروح القدس، ونعمة الروح كانت دواء لأمراض نفوسنا وأذهاننا”.
“قم احملْ سريرك وامشِ” قال الربّ للمخلّع. أما كان يكفي القول “قم وامشِ”؟ أمَا كانت المعجزة في أن يقوم ويمشي مَن كان عاجزًا عن أن يتقلّب على فراشه؟ انطلاقًا من قول القدّيس بولس الرسول: “إحملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا أتمّوا شريعة المسيح” (غلاطية 6، 2)، يجيب أوغسطينُس على السؤالين أعلاه بالقول: “شريعة المسيح هي المحبّة، والمحبّة لا نتمّها إلاّ إذا احتملنا بعضنا بعضًا. عندما كنتَ مريضًا، كان قريبك يحملك. والآن شفيتَ. فاحمل قريبك لتتمّ، أيّها الإنسان، ما كان يعوزك. إحمل فراشك. لكن عندما تحمله، لا تبقَ حيث أنت، بل امشِ. وفي محبّتك لقريبك، وباهتمامك به، فإنّك تقوم برحلة. فتكون وجهتك إلى الربّ الإله الذي ينبغي أن نحبّه من كلّ قلوبنا، ونفوسنا، وأذهاننا”.
خلاصة الإنجيل، اليوم، تكمن في قول الربّ يسوع للمخلّع الذي شُفي: “ها قد عوفيت، فلا تعد تخطئ، لئلاّ يصيبك أشرّ”. يريد الربّ يسوع عبر قوله هذا التأكيد على أنّ صحّة الإنسان الروحيّة أهمّ بكثير من صحّته الجسديّة. فالجسد سيبلى ويعود إلى التراب، أمّا الإنسان فمدعو إلى أن يحيا إلى الأبد. لذلك، على الإنسان أن يهتمّ بصحته الروحيّة عبر ابتعاده عن الخطيئة وسلوكه في طريق الربّ. هدف المعجزة لا يتوقّف عند البرهان على قدرة المسيح باجتراح العجائب، بل هدفها يكمن في تذكير الإنسان بقدرة الربّ على خلاصه ومنحه الحياة الأبديّة. الشرّ الأعظم من الأمراض والعاهات إنمّا هو الهلاك الأبديّ. فيا ربّ نجّنا من هذا الشرّ الأعظم.