برج بابل، في سِفر التّكوين، عنوان استكبار الإنسان، واعتدادِه بنفسه، وتمرّدِه على الله، وسلوكِه طريق بليعال. وهو كذلك، ونتيجة ذلك، عنوانُ عجزِ بني آدم عن فهم بعضهم البعض، كلعنة، من حيث إنّه لم يعد لهم لسان مشترك، فيما بينهم، مذ ذاك…
موضوعان أساسيّان، هنا، يسترعيان الانتباه، ويستدعيان إمعان النّظر: الاستكبار، والفهم، أو، بصورة أدقّ، العجز عن الفهم.
الإنسان، أصلاً، مخلوقُ كِبَر، وإلاّ ما قيل إنّ الله خلقه على صورته ومثاله؛ وما قال ربّك مباشرة: أنا قلت إنّكم آلهة… فإذا ما كان العليُّ أكبرَ كبيرًا، وهو كذلك، تمجّد اسمُه، فكِبَرُ الإنسان عَطيّةٌ من فوق. من دون الله تلقى آدمَ أحقرَ حقيرًا! عدميًّا! ترابًا ورمادًا! دودةٌ أنا لا إنسان!
من هنا أنّ الاستكبار، بالمعنى الصّارم للكلمة، لا يعني أن يطلب الإنسان الكِبَر. التماسُ الكِبَر شأن بديهيّ تلقائيّ لديه، مفطورٌ هو عليه. خُلِق الإنسان ليصير كبيرًا. يبدأ صغيرًا. لكنّ الصّغر ليس شأنًا حقيرًا. ثمّ ينمو ليَكْبر. ثمّة مسارٌ نمائيّ للكِبر الحقّ لا يُلتَغى! الخطيئة نقضٌ لهذا المسار! من هنا، أنّ معنى الاستكبار الّذي تعاطاه الإنسان هو ضربُ الصّفح عن تصوّر الله ومخطّطه بشأنه. الخطيئة برزت نتيجة خطأ متعمَّد! طلبَ الكِبَر من دون الله، وخارج نطاق تدبير الله. عصاه. تمرَّدَ عليه. طلَب أن يصنع ما يشاء هو، كما لو لم يكن هناك إلهٌ. حَسِبَ أنّه هكذا يصير كبيرًا. حسب أنّه كان ليكون كبيرًا، ولكن في ذاته، بمعزل عن الله. وجودُ الله، في وجدانه، أو عدم وجوده، أضحيا سيّان عنده! في الاستكبار، إذًا، إلغاء كيانيّ لترتيب الله، عمليًّا لوجوده؛ ومن ثمّ انتفاء لكلّ علاقة فعليّة بالله. بالإمكان القول، إذًا، إنّ خطيئة الاستكبار تتركّز في تعاطي المرء نفسه كبيرًا في ذاته، في إطار تجاهله لله، أو حتّى إلغائه من أفقه الدّاخليّ!
طبعًا، يُطرَح السّؤال: أي معنى يحمل الكِبَر؟ يحمل معنى الألوهة، كما سبق أن ألمحنا: أنا قلتُ إنّكم آلهة. المستكبر يتصرّف كإله، ولا يؤدّي حسابًا لدى آخر! يتعاطى ذاته والآخرين كإله. إذًا، يعبد نفسَه كإله، وديدنُه، من جهة الآخر، استخدامه واستعباده. المستكبرون، على هذا، في العمق، يأكلون بعضُهم بعضًا، لأنّ هاجسَهم استهلاك أحدهم الآخر! الآخر، في عين المستكبِر، عدوٌ تلقائيّ ينبغي إذلاله وإخضاعه، وإلاّ إفناؤه! الآخر شيء أو آلة! المستكبِر مُراءٍ أو وَقِح! قد يتخفّى! قد يتمسكن! وقد يظهر على حقيقته بكلّ وقاحة ولا يبالي! إذ ذاك يصير شبهَ الشّيطان!
لا طاقة للمستكبِر أن يكون مؤمنًا بالله. قد يتظاهر بالإيمان، وحتّى قد يظنّ نفسه مؤمنًا، أو قد يتحمّس للإيمان، لكنّه، في عمق وجدانه، مُلحِد! يتعاطى الإلحادَ الكيانيّ، لا الإيديولوجي، بالضّرورة! في هذا السّياق، الإيمان الإيديولوجي بالله قناعٌ ممتاز للإلحاد الوجوديّ، ومِن ثمّ مقاربةٌ فذّة لتعاطي المستكبِر الإلهيّات في زمن العقلنة!
المستكبِر، إذًا، مُلحِدٌ، يعبد نفسه، ومن ثمَّ لا يحبُّ، ولا يمكنه أن يحبّ إلاّ نفسه! حتّى نفسه، في الحقيقة، لا يحبّها. لو كان يحبّ نفسه – ومحبّة النّفس مشروعة: أحبّ قريبك كنفسك – لكان يصنع الخير لنفسه. لكنّه يصنع الشّرّ! كيف ذلك؟ هناك ذاتٌ خلقها الله. هذه طبيعيّة. وهناك شبه ذات أولدتها الخطيئة، ونشأت من الاستكبار. هذه أهوائيّة. طبعًا، ما هو من الطّبيعة تداخلَ وما هو من الأهواء، فبات ما هو طبيعيّ، في التّصوّر، أهوائيًّا، وما هو أهوائيّ طبيعيًّا. فلا غرو إن نَسَب الكثيرون الأهواء الفاسدة إلى الله، إذا ما ظنّوا أنفسهم مؤمنين، ونسبوها إلى الطّبيعة، إذا ما صنّفوا أنفسهم لا إدريّين، أي غير مبالين بما لله، موجودًا كان أم غير موجود! الإنسان، والحال هذه، يلحس المبرد، ويستقي، لأجل المفارقة، بدم نفسه! ما ينشأ عن الاستكبار، في الكيان، حالة مرضيّة، نوعٌ من حمى دائمة، تفضي، بصورة تلقائيّة، إلى إدمان يتحكّم باتّجاهات النّفس والجسد في الإنسان! كلّ كلام، في الإنجيل والآباء القدّيسين، عن التّنقية والتّطهير، يصبّ في خانة خلاص الإنسان من رِبقة الأهواء وأسْرِ الخطيئة – بالخطيئة ولدتني أمّي – وتاليًا، التّحرّر من الاستكبار، ميلاً كينونيًّا!
الاستكبار، بالنّتيجة، تأليهٌ عدميّ كذوب للذّات! ولولا رحمة الله ونعمته، لكان يُفترض بالإنسان المستكبِر أن يزول! لكنّه باق لقصد، اللهُ يَعلمُه، ذاتِ صلة بمحبّة الله له لأنّ الله محبّة! هذا القصد لا يسعنا الخوض فيه لأنّ الله لم يكشفه لنا! نخمِّن أو نتكهَّن أو نتساءل، وبالأَولى نترك الأمر لتدبير الله، لننصرف إلى ما كَشَفه لنا، وإلى ما هو لخلاصنا، يقينيًّا!
والاستكبار، إلى ذلك، محبّة أهوائيّة للذّات، أو قل لأهواء الذّات. هذا فيه استسلام لأهواء النّفس القابضة على الذّات لدرجة أنّها تحيلها ذاتًا أهوائيّة. في إطار أسْر الأهواء للنّفس هذا، تختبر النّفسُ، عوض المسرّة، متعة عابرة، وعوض الملء الفراغ، وعوض السّلام الخَدَر، وعوض السّكون الدّاخليّ ثِقلاً، وعوض الرّاحة العميقة التّشويشَ والقلق… ما يُدخل النّفس في غربة تزداد عن الله والآخرين والذّات، وما يقلب الفردوس الّذي خلقنا الرّبّ الإله، لا فقط فيه، بل عليه أيضًا، جحيمًا! وما الفردوس سوى الحبّ والجحيم مطلَق الخطيئة!
كِبَرُ الإنسان، أي ألوهتُه، منذ البدء، ارتبطت بالمحبّة لأنّ الله محبّة. كان على الإنسان، تمثّلاً بالله، أن يتروّض في محبّة الله لينمو في الكِبَر، أي في الألوهة الموعودة! وفي المحبّة لا عزلة ولا استكبار، بل انفتاح على الآخر واتّضاع بإزائه. وحده الله هو الله في ذاته، تمامًا لأنّه لا عزلة فيه. جوهره محبّة، لذا هو ثالوث، ولا ما يفصل الآب عن الابن عن الرّوح القدس فيه. الحبّ يجعل ذاتيّة الله حالاً داخليّة عميقة، كلٌّ من الآب والابن والرّوح القدس فيها حاضرٌ في الآخر بالكلّيّة، منعطفٌ صوبه، مشيرٌ إليه، مُمّحٍ بإزائه، متجلٍّ فيه، لا في ذاته. أنا في الآب والآب فيّ، قال الرّبّ يسوع. وقال أيضًا: مَن رآني فقد رأى الآب… وما هو عليه الثّالوث، أعطى الرّبُّ يسوع المؤمنين به أن يصيروا عليه: “في ذلك اليوم، تعلمون أنّي أنا في أبي، وأنتم فيّ وأنا فيكم…” (يوحنّا 14). إذًا، في الله ثالوث لأنّ الله محبّة، ولأنّه محبّة، اللهُ واحد. وحدة الله وحدة في المحبّة. ليست العزلة من صفات الله. العزلة نقض لوحدة الله، بهذا المعنى. على هذا، الاستكبارُ، لأنّه قائم في العزلة، غريبٌ، تمامًا، عن الله والتّألّه، ومن ثمّ عن الوحدة، إذ يشكّل آلهة وهميّة، أوثانًا، بمعنى، منعزل الواحد منها عن الآخر تمامًا، بمقدار ما هناك مستَكبِرون!
من هنا أنّ الكِبَر في الحقّ قائم في الألوهة، والألوهة قائمة في المحبّة الكاملة، والمحبّة الكاملة قائمة في الاتّضاع الكامل، أي في الإفراغ الكامل للذّات من إنِّيّتها (كلّ ما له علاقة بأنانية الأنا)، مع المحافظة الكاملة، طبعًا، على ذاتيّتها، أي شخصانيّتها! وبخلاف ذلك، استكبارُ آدم قائمٌ في ألوهة إيهاميّة، وهذه في عشقٍٍ كامل للذّات الأهوائيّة، وهذه في إنّيّة بلا حدود، وهذه في إفراغ كامل للذّات من كلّ حضور محبّيّ لآخر، وفي الاقتحام الكامل للآخر! من ذا كون الاستكبار، في الإنسان، لا فعلاً آثمًا وحسب، بل عمقٌ شيطانيّ! الاستكبار تجلٍّ شيطانيّ بامتياز! هذا، بالذّات، هو نَفَس الشّيطان في الإنسان منذ السّقوط، منذ أن شرع الإنسان في بناء برج بابل كونيّ كيانيّ نحو ظلمةٍ برّانيّة غريبة تمامًا عن الله!