بابل الّتي بعد بابل!. الفَهم (2)

mjoa Tuesday May 27, 2014 61

بنتيجة استكبار البشريّة، فَقَدت القدرةُ على فَهم النّاس أحدهم الآخر. بكلام سِفر التّكوين، تدخّلُ الله كان “حتّى لا يسمع بعضهم لسان بعض” (11: 7). لذا بلبل العليّ لسان كلّ الأرض (11: 9)!

   لاحظْ، العجزُ عن الفهم مردُّه فقدان الطّاقة على سماع الواحد الآخر. طبعًا، هناك سماع بالأذن الخارجيّة، وهناك سماع بالأذن الدّاخليّة، أي بأُذن القلب. الأذن الخارجيّة لا عيب فيها بالضّرورة. هذا شأن آلي. العيب هو في الأذن الدّاخليّة. من هنا القصور في الفهم. مَأْخَذُ الرّبّ يسوع على هذا الشّعب أنّ قلبه قد غَلُظ، وآذانَهم قد ثَقُل سماعُها. لذلك صار متعذّرًا عليهم أن يسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم (متّى 13: 15)! الدّماغ، بالمعنى الصّارم للكلمة، يُدرِك، فيما الفهمُ عملُ القلب. لذا، في “لسان العرب”، الفهم هو معرفتُك الشّيءَ بالقلب. طبعًا، اللّسان مرتبط بالدّماغ، وهذا مرتبط بالقلب. اللّسان ينطق بقوّة الدّماغ، لكن الدّماغ يتّسم بنيّة القلب! لذا مَن يسمعك سَمْعَ الأذن لا يكتفي بإدراك معنى ما تقول، بل يطلب أن يفهم ما تقصد! للقلب، إذًا، لسانه الدّاخليّ، بمعنى، وكذا أذنه! غير صحيح، بهذا المعنى، إذًا، أنّ ثمّة إمكان حوار دماغيّ/عقليّ بحت بين النّاس. كلّ حوار، في عمقه، حوار قلوب! الهاتف، الّذي في يدك، لا يحاور الهاتف الّذي في يد صاحبك، بل أنت الّذي يحاور صاحبه عبر الهاتف. الأنا يتمثّل في القلب، في الكيان. لذا التّرقّي لا يعني “العقلنة”، بمعنى تطوير الدّقّة في عمل أنظمة القوى الإدراكيّة، بل يعني، في الحقيقة الإنسانيّة العميقة، “القلبنة”، بمعنى تعزيز سلامة النّيّة وشفافية التّواصل الكيانيّ وانعطاف القلب على القلب! كلّما أعتم القلبُ، بالأنانيّة والخباثة والرّياء، كلّما أضحى الذّكاء والعِلْم أداتين لتعطيل الفهم فيما بين المتحاورين! الفهم، هنا، لأنّه مرتبط بالقلب، له معنى التّفاهم، وللتّفاهم معنى التّلاقي، وللتّلاقي معنى الوداد/المحبّة، وللودّاد/المحبّة معنى الاستيحاد! الحوار، ومن ثمّ العلاقة، لا تقوم على الالتباس، ولا على المساومة، ولا على الحدّ الأدنى المشترك… هذا كلّه مشبَع بالرّيبة والمراوغة والتّلفيق. ولا حوار يُبنى على التّشكيك والمداورة والرّياء، ولا علاقة قابلة للحياة والرّسوخ، والحال هذه!

   لا فهم ولا تفاهم، إذًا، بين النّاس، حيث لم تعد، هناك، استقامة قلب! بكلام سِفر التّكوين: “تصوّرُ قلب الإنسان شرّيرٌ منذ حداثته” (8: 21). وبكلام إرميا النّبيّ: “القلب أخدع من كلّ شيء، وهو نجيس، مَن يعرفه؟” (17: 9)! هذا ما جعل كلّ لسان، في البشريّة السّاقطة، غيًّا، وكلّ أذن غلفاء! لأنّ القلب لم يعد إلى القلب، تبلبلَ لسانُ سكّان الأرض قاطبة، وما عادت هناك لغة تواصل بين الكائن والكائن!

   اللّغة، أو اللّغات الّتي نتعاطاها، اليوم، هي، عُرفًا، آلية اتّصال ابتدعتها البشريّة إثر العَطَب الّذي أصاب علاقتها بالله، لأنّ الإنسان مفطور على التّواصل. تأتي هذه الآلية كبديل عن لغة حكاها، قبل ذلك، لمّا كان في الفردوس، وكانت علاقته بالله قويمة. ليس أنّ في اللّغات المتداولة، في ذاتها، في العالم، مذ ذاك، ما هو فاسد أو مضير، لكنّها قاصرة عن تحقيق التّواصل الكيانيّ بين النّاس. طبعًا، الضّرورة حتّمتها، ولكن في إطار واقع الخطيئة المستجد. لذا، وجودها، في ذاته، إن هو سوى مؤشِّر عيبٍ ونقصٍ تواصليّ بين الإنسان والإنسان، ولا جدوى، في النّهاية، منها! في ذاتها، لا تُقارب ولا تُباعد!

   قلنا إنّ ثمّة لغة عرفها الإنسان في الفردوس يسَّرت تواصله بالله. هذه ما طبيعتها، وما علاقتها باللّغات المتعارف عليها في العالم؟

   من أقوال القدّيس إسحق السّوريّ إنّه إن كان الكلام هو لغة هذا الدّهر فالصّمت هو لغة الدّهر الآتي. أيّ صمت يقصد؟ لا يقصد، طبعًا، الصّمت بمعنى عدم الكلام. الصّمت، كلغة، هو، بالأحرى، توصيف لحال سكونٍ عميقة وكاملة تسود بين الواحد والآخر، وتكون مؤشِّرًا لانفتاح كلّيّ للكيان على الكيان، في إطار يقظة ما بعدها يقظة، ووضوحٍ ما بعده وضوح، وشفافيةٍ ولا أشفّ، وتناضحٍ ولا أوفى! كلٌّ، في مثل هكذا تفتّح، يقرأ، بنورانيّة ولا أبهى، لا ما يبدر عن الآخر، بل إيّاه تمامًا! لا يكون الواحد، والحال هذه، إلى الواحد، وحسب، بل واحدًا وإيّاه، بالأَولى! إنّها غمرة المحبّة وفيضها! اللّغة، كما نعرفها، تأتي، كمن الخارج، لتستطلع ما في داخل الآخر! وحدة المحبّة، الّتي تحقِّق تمام إزائيّةِ الإنسان للإنسان، تبلغ معرفة ما في داخل الآخر، كمن الدّاخل! الحبّ يزيل العوائق والحواجز، ويُدخل فيه كلٌّ الآخر إليه ليقيم لديه بالكامل! الصّمت، إذ ذاك، يصير ملءَ اللّغة، واللغةَ الّتي يُفترَض أن تولد منها كلُّ لغة وتؤول إليها! إذا ما أصررنا على اعتبار الصّمت لغة، فلغة الصّمت هي لغة المحبّة من كلّ القلب ومن كلّ النّفس ومن كلّ القدرة! من هنا تنبع المعرفة الكيانيّة الأعمق الّتي تضيء كلّ معرفة وتُفعمها معنًى وقيمة وتحقِّقها!

   في هذا السّياق، إذًا، لا لغة لله، كما لنا لغات! الله هو الصّامت الأكبر الّذي يدخل، بروحه ومحبّته، أغوارَ قلب الإنسان، وتلافيفَ دماغه، وحسَّه برمّته، مستقرئًا كلَّ لغات النّاس، إلى أدقّ دقائقها! لا يتعاطى ربّك ما يخرج منك، لغةً أو سواها، بل اللّجّة الّتي فيك، إيّاك في عمق كيانك، ما يخرج منه كلُّ ما لك! هكذا يخاطبك ربّك: لجّة تنادي لجّة، كيان ينعطف على كيان، أعطني قلبك يا بنيّ! ربّك علاّم القلوب وربُّها!

   وما هو عليه ربّك يصير عليه قدّيسوه. كم من قدّيس خاطب وتَخاطب والنّاس ولمّا يعرف لغتهم، وكان إليهم في فهمٍ وتفاهمٍ كاملَين! في نقاوة القلب، كلّ ما في الدّاخل والخارج يستبين جليًّا! هذا عرفناه لا من ماضٍ غابر، بل من حاضر قريب أيضًا. أكثر من حادثة، تُرَدّ إلى القدّيس برفيريوس، والأب الشّيخ بائيسيوس، تبيّن عفويّة فهم لا ما يَنطق به اللّسانُ بل ما يعطي اللّسانَ النّطقَ بما ينطق به!

   في ضوء ما تقدّم، لنا استنتاج أوحد، نبديه، وهو أنّ البشريّة، إن تركّز همّها في التّخاطب بلغات ناسها، فلا إمكان فهمٍ للواحد فيها الآخر ولا تفاهم! تتنافى بتواتر! وحدها مقاربة المحبّة تقرِّب وتوحِّد! بلاها نوغل في فهم جاهل، وفي تفاهم نافل! الّذين يعرفون لا يحتاجون إلى كثرة كلام، ولهم في صمتهم الجدوى، والّذين لا يعرفون لا يكفّون عن الكلام، ولهم في ثرثراتهم البابيليّة جحيميّة لا قرار لها! إمّا المحبّة وإمّا الجحيم!

   بابل مستمرّة حتّى تلاشي البشريّة طالما بقيت راتعةً في الاستكبار، وأمعنت في اللاّفهم ولمّا تَتُب! الدّماغ، في ذاته، لا ينفع شيئًا، القلب هو الّذي يحيي! نتكلّم لغات النّاس الهادرة، بروح المحبّة، حتّى ندخل وإيّاهم صمت الكيان إلى الكيان! اللّغات كانت لتُلتَغى، عودةً إلى لغة الكيان! لجّة تنادي لجّة على هدير شلاّلاتك!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share