مؤتمر الوحدة الأنطاكية الآتي بصيص نور نحو الرجاء المُنتظر! – المحامي كارول سابا

mjoa Monday June 16, 2014 89

يقول الكاتب البريطاني الشهير أوسكار وايلد، “ان الحقيقة، هي بالكليّة قضية اسلوب”، اي ان ايصال الحقيقة، يتطلب أسلوباً ممنهجاً. احد أوجه مرض الجسم العربي المفكك له منذ القرن العشرين، يكمن في عدم قدرة العقل العربي المعاصر، برغم من وفرة القدرات وامجاد الماضي، على التخطيط والاستشراف والقراءات الاستباقية للتحولات والتحديات المفصلية. فالتوثب الذكي في العالم، يتطلب قراءة نقدية لمناهج الماضي، واستعداداً فكرياً لفهم تحولات الحاضر ومجابهتها بذكاء وحداثة.

carol-saba1

يقول سمير قصير في كتابه “تأملات في شقاء العرب” الصادر في 2004 سنة قبل استشهاده: “ان شقاء العرب هو في عدم قدرتهم ان يكونوا بعد ان كانوا”. المشكلة في المجتمعات المحافظة والتقليدية، لا تكمن في القدرات بل في القدرة على المراجعة النقدية لمفاصل التراجع ومسبباته وعلى تفعيل المواهب وتثميرها من اجل قراءة صائبة لمكامن التجدد ومحركاته. المشكلة هي في فقدان الرؤية المتجددة ومنهجيات التوثب النوعية للامام. صفحات التاريخ مملوءة بتجارب مجتمعات نمت على امجاد مضت وسقطت كونها فقدت قدرتها على التوثب المجتمعي الذكي بحداثة بعد ان توقفت عن قراءة التحولات الملمة بها، معتقدة ان الحداثة تكمن في مظاهر العصرنة. فالعصرنة متفشية في مجتمعاتنا المشرقية، ظاهرها تقدم وباطنها تقوقع، وهي بغزوتها لكل شيء تقتل “الشخصانية” وتنمي “الفردية” التي تقتلع الانسان من تاريخه ومجتمعه وتقليده وهويته، وتعريه. اما الحداثة فهي تجدد وتثقيف واغناء للهوية “الشخصانية” كونها تقرأ التقليد كمكون “حي” ينبض حيوية وليس مجرد “ميراث” نحضنه دون ان ننميه ونطوره. فالمجتمعات التي تعجز ان “تكون بعد ان كانت”، تجنح دائما نحو الانفصام المرضي باعتقادها انها لا تزال تسكن في الامجاد التي اولدتها، في حين انها تمركزت في هامشية “متحفية” قاتلة تمنع كل مراجعة نقدية وكل تجدد. نحن، وامامنا في هذا الجهد الريادي هو غبطة البطريرك يوحنا العاشر، لا نريد لانطاكية ان تتمركز في هكذا “متحفية”، مهما لمع بريقها، بل نريدها ان “تكون” في الرؤية الصائبة والفعل الفاعل والقول النافذ، بعد ان “كانت” هكذا، وتاريخها يشهد لها بذلك. فعنوان المطلوب اليوم انطاكيا هو “مقاربة الحداثة” وليس “مواكبة العصرنة” فلا مستقبل لنا ان لم نقرأ بالثوابت والمتحركات في عالم اليوم وفي حركة التاريخ وتداعياتها على الواقع الانطاكي ونستشرف منها سبل التوثب نحو المستقبل. وهذا ما يسعى اليه غبطة أبينا البطريرك يوحنا العاشر من خلال المؤتمر الانطاكي، “الوحدة الانطاكية، ابعادها ومستلزماتها”، الذي سينعقد في دير البلمند بين 25 و29 حزيران 2014 والذي شرح اهدافه النوعية في مؤتمره الصحافي الاخير. فهذا الحدث الانطاكي الهام هو نقلة نوعية في الاتجاه الصحيح كنا قد طالبنا بها مراراً منذ عهد المثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس هزيم، ومقالاتي في “النهار” تشهد بذلك. فالمؤتمر الذي يحصل لاول مرة بهذا الشكل والمضمون وبمشاركة كل ابرشيات الكرسي الانطاكي، غرباً وشرقاً، سيتناول خمسة محاور اساسية لشهادة الكنيسة الانطاكية ولدورها الوطني التنويري، ومنها السياسة الاعلامية الكنسية للكرسي الانطاكي، التي سأحاضر عنها في المؤتمر على طلب البطريرك والتي لا اراها الا في “الاعلام التواصلي والتشاركي”.

فالمؤتمر هو أبعد من عملية “ترتيب للبيت الانطاكي الداخلي”، على أهميتها. فالتحديات كثيرة، داخلياً وخارجياً. فلا بد من مراجعة تاريخية لصعود الازمات في لبنان وسوريا والمشرق وقراءة في الدروس التي يمكن ان نستخلصها منها. وامام تحديات المسيحية المشرقية، لا بد من مقاربة تحدي الوحدة المسيحية الانطاكية ومستلزماتها. واما بالنسبة الى قضايا الحضور المجتمعي الانطاكي ومستلزمات الخروج من الانكفاء، فلا بد من قراءة للمسببات التاريخية التي تعود جذورها الى منظومة الملة العثمانية التي تسجن الكنيسة في الطائفة والطائفة في الاقلية والانفتاح في التقوقع والعلمانية في الطائفية، فيفقد مع الوقت كليهما اي فاعلية في المجتمع، كما حصل. كما لا بد من مقاربة تحدي المأسسة والمحكومية الكنسية التشاركية ومردودها على الوحدة الانطاكية والتعاضد والتكاتف، ناهيك عن محورية تحدي البشارة والرعاية المتجددة القادرة على مواكبة المعضلات المجتمعية في عالم اليوم المتعولم. فمن وسط النار المستعرة والركام المحيط بنا، وبؤر الاخطار والتحولات المتحركة، انطاكية مدعوة اليوم الى مراجعة نقدية هادئة لتجربتها الكنسية في العقود الماضية، واستعادة المبادرة الكنسية والوطنية واعادة انتاج دورها الريادي الآن وهنا، من قلب انطاكيا الذي ينزف الماً ويرشح رجاء، الى اصقاع الارض كلها حيث الانتشار الانطاكي. يقول المثل البريطاني “ان فشلت في التخطيط، فأنت تخطط للفشل”. فحداثة هذا المؤتمر، تكمن بأنه يسعى لاول مرة في تاريخ انطاكية المعاصر للمراجعة النقدية والقراءة الصائبة والتخطيط الفاعل. فالمطلوب اليوم أكثر من أي يوم مضى، الخروج من المقاربات التقليدية من اجل اعادة تمركز الكنيسة الانطاكية، التي تحدق بها اخطار ومطامع اخوية وغير اخوية، بشكل نوعي واستراتيجي في وسط معادلة عالم اليوم وفي وسط معادلة الثورة الانجيلية التي دعانا الناصري الناهض من بين الاموات ان نكون نحن الى الملكوت محركيها ومطوريها ان عرفنا ان نكون، بذكاء وحداثة، ملكوتاً بحلة ترابية مستنيرة تنير الآخرين وتشير الآتي.

 

جريدة النهار

16 حزيران 2014

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share