الصّلاة وتوحيد الدّيانات التمثيليّة الكبرى!

mjoa Monday June 23, 2014 68

في القرون المسيحيّة الثّلاثة الأولى، كانت الأمبراطوريّة الرّومانيّة تعتبر المسيحيِّين “ملحدين”! لماذا؟ لأنّهم رفضوا أن يكونوا ديانة كبقيّة الدّيانات، وفي إطار مجمع الدّيانات المسخّرة لخدمة الأمبراطوريّة. المسيحيّون رفضوا أن يسيِّدوا قيصر عليهم لأنّ معلّمهم أوصاهم بأن لا يدعوا لهم سيِّدًا على الأرض لأنّ سيِّدهم واحد في السّماء. وفي أكثر من مكان، في أرجاء الأمبراطوريّة، امتنعوا عن الانخراط في العسكريّة، دفاعًا عن قيصر، لأنّ العسكريّة كانت تحتّم عليهم تقديم فروض العبادة لآلهة الأمبراطوريّة، ولشخص الأمبراطور الّذي درج تعاطيه إلهًا، خاصّة منذ عهد الأمبراطور يوليوس قيصر. إذًا إلحاد المسيحيِّين هو “إلحاد”، بمعنى اللاّعبادة، أو حتّى اللاّإعتراف بألوهيّة قيصر وآلهة الأمبراطوريّة. خارج حدود الاعتراف بيسوع المسيح، ربًّا وإلهًا، لا قول عندهم بإله أيًّا يكن! إذًا لا هناك مجمع آلهة ولا هناك ديانات في وجدانهم! ولو اعترفت الدّولة بآلهة وديانات أخرى غير مسيح الرّبّ، فهذا شأنها! المسيحيّون لا يعترفون! بالنّسبة إليهم، مَن لا يعترف بأنّ ابن الله جاء في الجسد، في شخص يسوع المسيح، فلا قيمة لما يعترف به، كانت ما كانت الدّيانة الّتي ينتمي إليها!

   الدّيانات، في الوجدان الرّومانيّ، كانت في خدمة الدّولة كما قلنا. لذا استتبعت تهمة المسيحيِّين بـ”الملحدين” اتّهامهم بالخيانة العظمى للأمبراطوريّة! هذا، بعامّة، هو الفكر الّذي كَمَنَ وراء اضطهاد المسيحيِّين، يومذاك. الآباء المسمَّون “مدافعون” حاولوا أن يميِّزوا بين المواطنيّة الصّالحة وعبادة آلهة الأمبراطوريّة. أبانوا أنّ المسيحيِّين مواطنون صالحون بكلّ معنى الكلمة. ولكن، كان صعبًا على الوجدان العامّ أن يقتبل فك الارتباط بين الولاء للأمبراطوريّة والولاء لآلهة الأمبراطوريّة، بمَن فيهم قيصر! أتى المسيحيّون، يومذاك، بموقف جديد تمامًا من الدّولة: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. الدّولة، في شخص قيصر، مستأهلة، عندهم، الإكرام والأمانة، في شؤون هذا الدّهر، هذا لا شكّ فيه؛ إذًا المسيحيّون ملزَمون، من جهة إيمانهم بيسوع، بإكرام قيصر، كرمز للسّلطة المدنيّة، وملتزمون الأمانة الكاملة للأمبراطوريّة الّتي يعيشون في كنفها. أمّا مَن يعبدون فهذا شأنهم، ولا قوّة على الأرض تجعلهم يتنازلون عنه! الجديد الّذي قدّموه أنّ السّلطة المدنيّة شيء، والسّلطة الإلهيّة شيء آخر. وما أمانتهم لسلطة الدّولة سوى فيض من أمانتهم لربِّهم!

   بناء عليه، إذا ما كان هناك مسيحيّون لا يُخلِصون للدّولة، في أمور هذا الدّهر، فليس السّببَ مسيحُهم، بل، بالعكس، قلّةُ أمانتهم لمسيحهم! إذًا الإخلاص للدّولة لا يتأتّى، في فهمهم، من جمع ديانات النّاس، الواحدة إلى الأخرى، وجعلها في خدمة الدّولة، كما ظنّ الرّومان وفعلوا. الإخلاص للدّولة، بالنّسبة للمسيحيِّين، يأتي من الأمانة الكاملة لمسيح الرّبّ. أمّا جمع الدّيانات واعتبارها متساوية وتسخيرها لخدمة مرامي الدّولة، فلا علاقة له بالولاء والإخلاص لسلطات هذا الدّهر، إلاّ وهمًا! مجمع الآلهة، في نهاية المطاف، القصد منه توثينها، ومن ثمّ إطاحتها! من هنا أنّه إن كان المسيحيّون يَعتبرون أنّه خارج مسيح الرّبّ لا آلهة، فالإصرار على مجمع الآلهة، ومن ثمّ على توحيد الدّيانات، له هدف واحد هو إطاحة مسيح الرّبّ من الأذهان، وتحويل “ديانات” الأرض قاطبة إلى طقوس فولكلوريّة متحفّية!

   ثمّة، اليوم، مَن يوحي بأنّ أكثر هموم الأمم مذهبيّة الطّابع. لذا المنطق يتحرّك هكذا: اجمع الدّيانات والمذاهب تحلّ مشكلات الأرض! اجمع المسلمين إلى بعضهم البعض والمسلمين إلى المسيحيّين والمسيحيّين فيما بينهم، وهؤلاء وأولئك إلى اليهود، وهكذا دواليك، فلا تعود هناك أسباب عميقة للصّراعات الدّوليّة. هذا وهم وخداع شيطانيّ! ليست الغيرة الدّينيّة ما يكمن وراء العنف في العالم اليوم، لا سيّما في منطقتنا، بل التّشويه المذهبيّ من جهة، والاستغلال الآثم للمشاعر المذهبيّة، من جهة أخرى! وهذا مقدّمة لجعل المذهبيّة مقترنة بالعنف والقتل، ومن ثمّ مقيتة، وإيهام النّاس بأنّ الدّين هو الهمّ والعائق أمام تلاقي شعوب الأرض؛ فإذا ما انجمعت الدّيانات، أمكن النّاس أن يعيشوا بسلام واتّفاق! لكن انجماع الدّين لخدمة الإنسانيّة “المزعومة” لا يعني، في الحقيقة، إلاّ تسخير الكلّ لسلطة المتّسلِّطين على الأرض، كبدائل للآلهة، وتعاطي البشريّة كآلاتٍ عضويّة، إفراغًا لها من هاجسِ الألوهةِ، وإفعامها من حضور إبليس!

   من سنوات طويلة، والمساعي قائمة على قدم وساق لتوحيد ديانات الأرض. لا شكّ أنّ القضيّة الفلسطينيّة والرّبيع العربيّ مثالان للصّراعات السّياسيّة والأمنيّة ذات البُعد المُشيّع، إعلاميًا، أنّه مذهبيّ. اللّعب الدّعائيّ على أوتار وجدانات النّاس لدفعها إلى توحيد مذاهب الأرض، بتسليط الأضواء على مغبّة الصّراع فيما بينها، مستمرّ بلا كلل! الحدث الأخير في حاضرة الفاتيكان، ما جمع البابا فرنسيس الأوّل والبطريرك برثولماوس القسطنطينيّ، إلى محمود عبّاس وشيمون بيريز، ينتمي إلى هذا الأفق. فالسّعي هو إلى دفع الوجدان العامّ في اتّجاه وحدة الدّيانات! لكنّ المشكلة الفلسطينيّة لا تُحلّ برفع الأربعة الصّلاة، كلّ على طريقته، ووفق رغبته، إلى مَن يُعتبَر إلهًا واحدًا مشتركًا. هذا وهم وكذب! المشكلة الفلسطينيّة تحلّ بسلامة النّوايا! ساعتذاك، إذا صلّى كلٌّ، في خدره، ينتفع وينفع! بغير ذلك، الصّلاة أو الصّلوات في لقاء، كالّذي حدث، لا قيمة لها! نكون بإزاء عمل مسرحيّ، ومسعى إعلاميّ وترويج إيهاميّ لمقاربة سياسيّة دينيّة باطلة!

   هذا لا يعني، أبدًا، أنّ الصّلاة، بالمطلق، لا تنفع. لا يفهمنّنا أحد خطأ! طلبة البار تقتدر كثيرًا في فعلها! ولكن هذا لا فقط لا يحتاج إلى عمليّة تلفيق لصلوات يُزعم أنّها مشتركة بين ذوي الدّيانات المسمّاة “توحيديّة”، بل لا يحتاج أيضًا إلى مسرحيّة “سياسيّة إعلاميّة” تدغدغ عواطف النّاس نحو الجماليّة والفاعليّة المزعومتَين لوحدة الدّيانات المسوَّق لها!

   ما جرى هو تصنيع قطعة موزاييك في مربّع لا يمكن أن يفرز للعالم سلامًا، وما الغرض منه سوى تسخير مسيح الرّبّ، في أبرز شخصيَّتَين مسيحيّتَين تاريخيّتَين، خلافًا لكلّ منطق تراثيّ، لمرامي قيصر هذا الدّهر! نحن بإزاء سيناريو الأمبراطوريّة الرّومانيّة مستعادة! وما فشلت فيه الأمبراطوريّة القديمة، تحاول الأخيرة أن تصيب فيه نجاحًا! الأولى أفشلها المسيحيّون بأصالتهم، والأخيرة ثمّة من يحاول أن يجعلها تنجح… بكلّ أسف، بالمسيحيّين، لدهريتهم!

 

الأرشمندريت توما (بيطار) رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي دوما – لبنان 22 حزيران 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share