مثلّث البربريّة

الأب جورج مسّوح Wednesday July 23, 2014 131

غزّة، حلب، الموصل. مثلّث الموت. بلاد الرعب. أرض الشرّ المطلق. آن أوان الحصاد. المنجل يفتك بالرؤوس والأجساد. مصّاصو الدماء لا يشبعون.

غزّة، حلب، الموصل. زوايا المثلّث الثلاث. حدود بلاد الشام الغارقة بدماء أبنائها. حدود مرسومة بدماء الضحايا البشريّة. ضحايا الحقد الأعمى. ضحايا التطرّف الدينيّ والمذهبيّ. ضحايا العنصريّة.

تكشر النصوص المقدّسة عن أنيابها. تفغر أفواهها متعطشّة للحم والدم. اقتلوا. قاتلوا. أبيدوا. اطردوا. احرقوا. اقتلعوا. اقطعوا. اذبحوا. انحروا. اسبوا. شرّدوا… أفعال تنوء بأثقالها نصوص مقدّسة. نصوص حمّالة أوجه ينتقي منها قارئها ما يناسبه وما يبرّر شهواته المنحرفة، مهملاً الآيات التي تدعو إلى السلام والمحبّة والرحمة…

نصوص من حبر وورق أضحت أثمن من دم الإنسان ولحمه. هذا الإنسان الذي كرّمه الله وفضّله على كلّ المخلوقات بات دودةً تُسحق باسم إله حاقد، قاتل، جزّار…

“كنتم خير أمّة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر” (سورة آل عمران، 110). فهل بات ذبح مسيحيّي الموصل كالخراف وتهجيرهم هو المعروف الذي يأمر به القرآن؟ هل بات صون دمائهم وأرزاقهم وكنائسهم هو المنكر؟ هل اتّجهتم إلى القبلة عندما نحرتموهم كي يكون ذبحهم حلالاً، وكي تكون ضمائركم راضية ومرتاحة؟

هل بسملتم، “بسم الله الرحمن الرحيم”، عندما حززتم رقابهم؟ كيف تؤمنون بالله الرحمن الرحيم، ولا تأخذكم رحمة ولا رأفة بالبشر؟ كيف تصرخون “الله أكبر”، وتجعلون أنفسكم أكبر من الله خالق الأنفس وقابضها ساعة يشاء هو، لا أنتم؟ كيف تصرخون “الله أكبر”، وتتعاملون مع البشر بصلف وكبرياء واستعلاء؟

أمّا “شعب الله المختار”، المختار حصريًّا بوكالة غير قابلة للعزل! فحدّث ولا حرج. “وأنتم رأيتم جميع ما فعل الربّ إلهكم بكلّ تلك الأمم من أجلكم، لأنّ الربّ إلهكم هو المحارب عنكم” (يشوع 23، 2). قاتل إلههم عنهم وأباد شعوب الأرض التي احتلّوها. فهل يعفو إلههم عن غزّة؟ باسم الإله نفسه يعربدون فوق غزّة ويستبيحونها.

لكنّ أصحاب “داعش” أيضًا يؤمنون بأنّ الله يقاتل عنهم: “فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم، وما رميتَ إذ رميت ولكنّ الله رمى” (سورة الأنفال، 17). عاد الداعشيّون إلى دين ما قبل إبراهيم النبيّ. إبراهيم أوقفه الله عن تقديم ابنه ذبيحة، وأرسل إليه من السماء كبشًا عوضًا عنه. أبطل الله الذبائح البشريّة واستعاض عنها بالذبائح الحيوانيّة. لكنّ أتباع البغداديّ ما زالوا يشتهون الذبائح البشريّة. فأفٍّ لهم ولعباداتهم.

أمّا المسيحيّون فلم يتوانوا، عبر التاريخ، عن شنّ الحروب وارتكاب المجازر باسم إله المحبّة. القائمة تطول، ولن نذكر منها سوى ما جرى في لبنان إبّان حروب الطوائف المستمرة منذ قرن ونصف. فباسم الدفاع عن الوجود المسيحيّ انساق المسيحيّون إلى أفعال شنيعة لا ترضي المسيح ولا قدّيسي كنيسته.

يهود، مسيحيّون، مسلمون، يتساوون في الإثم كما في البرّ. أهل غزّة السنّة لا يستثيرون مروءة أنظمة أهل السنّة، فكيف لحفنة من المسيحيّين في هذا البحر الهائج أن تستثير مروءتها؟

غزّة، حلب، الموصل. مثلّث يرسم الحدود الفاصلة ما بين الإنسانيّة والبربريّة. الصهيونيّة، “داعش”، المذهبيّة، ليست سوى وجوه لبربريّة واحدة.

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 23 تموز 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share