الخليقة كلّها أمانة

الأب جورج مسّوح Thursday July 31, 2014 245

يستعمل كاتب سفر التكوين في خاتمة كلّ يوم من أيّام الخلق الخمسة الأولى عبارة “ورأى اللَّه أنّ هذا حسن” (تكوين ١: ٤ و10 و12 و18 و21). لكنّه، بعد أن يتحدّث عن خلق الإنسان في اليوم السادس يستعمل الكاتب عبارة “ونظر اللَّه إلى كلّ ما صنعه. فرأى أنّه حسنٌ جدًّا” (تكوين 1: 31).

جعل اللَّه الخليقة كلّها لخدمة الإنسان. أمر النباتات بأن تثمر، وخلق الحيوانات وأمرها بأن تتكاثر. وخلق اللَّه الإنسان على صورته ومثاله، وأمره بأن ينمو، ويكثر، ويملأ الأرض، ويُخضعها، ويتسلّط على الحيوانات. غير أنّ الإنسان فهم الوكالة الإلهيّة بالرئاسة على المخلوقات الأخرى استبدادًا، وتناسى أنّ اللَّه أراد منه ممارسة هذه الوكالة بمنطق المحبّة لا بمنطق الطغيان.

عندما خلق اللَّه الإنسان، خلقه “على صورته ومثاله”. وقد أجمع التراث المسيحيّ على القول إنّ القسم الأوّل من العبارة “على صورته” يشير إلى أنّ اللَّه خلق الإنسان صالحًا، خلقه “حرًّا، عاقلاً، ناطقًا”. أمّا تتمّة العبارة “ومثاله” فتعني دعوة الإنسان إلى تحقيق الصورة بصنعه الفضائل الإلهيّة بإرادته الحرّة.

وفي هذا السياق، يقول القدّيس يوحنّا الدمشقيّ (+750): “إنّ الفضيلة قد زُرعت في طبيعتنا من اللَّه الذي هو بدء كلّ صلاح. إذًا، إذا ثبتنا في ما هو بحسب طبيعتنا، نكون في الفضيلة. وإذا حدنا عمّا هو بحسب طبيعتنا – أي عن الفضيلة – نؤول إلى ما هو ضدّ طبيعتنا، ونصير في الرذيلة”. أمّا أوريجنّس الإسكندريّ (+235)، فيعتبر أنّ الإنسان اتّخذ جلال “الصورة” وبهاءها في الخلق، لكنّ الكمال، الذي هو المثال، فيناله بالجهاد والمثابرة. فالإنسان أوتي إمكانيّة الكمال في البدء، وعليه أن يبلغه بإتمامه أعمال الفضيلة والبرّ.

ودخل الشرّ العالم نتيجة الخطيئة التي ارتكبها الإنسان ابإرادته الحرّة. ففسدت الأرض بسبب الإنسان: “وفسدت الأرض أمام اللَّه وامتلأت عنفًا. ونظر اللَّه الأرض فرآها فسدت لأنّ كلّ بشر أفسد سلوكه فيها” (تكوين ٦: ١١- ١٢). ويؤكّد القدّيس بولس هذا الأمر بقوله: “والخطيئة دخلت في العالم بإنسان واحد. وبالخطيئة دخل الموت. وسرى الموت إلى جميع البشر لأنّهم كلّهم خطئوا” (رومية 5: 12).

الربّ يسوع كان يحبّ الطبيعة وجمالها، ويحبّ الخليقة كلّها. لذلك نراه يتحدّث، في الموعظة على الجبل، عن بهاء الخليقة واهتمام اللَّه بها، فيقول: “انظروا طيور السماء كيف لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن، وأبوكم السماويّ يرزقها (…) تأمّلوا زنابق الحقل كيف تنمو، ولا تغزل ولا تتعب. أقول لكم ولا سليمان في كلّ مجده لبس مثل واحدة منها” (متّى ٦: ٢٦- ٢٩).

يؤكّد الرسول بولس على أنّ الخليقة لم تنحرف، بل الإنسان جعلها فاسدة، وهي تنتظر الخليقة الجديدة كي تستعيد جمالها الأصليّ، فيقول: “الخليقة تنتظر بفارغ الصبر ظهور أبناء اللَّه. وما كان خضوعها للباطل بإرادتها، بل بإرادة الذي أخضعها. ومع ذلك بقي لها الرجاء أنّها هي ذاتها ستتحرّر من عبوديّة الفساد لتشارك أبناء اللَّه في حرّيّتهم ومجدهم” (رومية ٨: ١٩- ٢١).

لقد سلّمنا اللَّه الخليقة كلّها أمانةً، وأوكل إلينا حسن التصرّف بها. غير أنّ الخطيئة جعلتنا نسيء إلى هذه الأمانة. ويبقى السؤال: هل يمكننا أن نستدرك الأمر ونلتزم أداء الأمانة قبل أن يحلّ الملكوت الآتي؟ نعم، فالخليقة لن تعود إلى بهائها بسوى توبة الإنسان وعودته إلى دعوته الأصليّة برئاسته على الخليقة كلّها.

يخبرنا كاتب سيرة القدّيس سيرافيم ساروفسكي أنّ الدببة كانت تقترب منه من دون أن تؤذيه. استطاع القدّيس سيرافيم، بتوبته، أن يستعيد حالة آدم الأوّل حيث كان الإنسان يحيا في الفردوس بسلام مع الخليقة كلّها. وهذا دليل على قدرة كلّ إنسان على أن يصنع، بتوبته، السلام مع كلّ البشر ومع الخليقة كافّة.

“ها أنا أجعل كلّ شيء جديدًا” (رؤيا 21: 5). الملكوت هو الخليقة الجديدة. لكنّ الإنسان مدعوّ، عبر رعايته للخليقة، إلى أن يكون شريكًا للَّه في خلقه الجديد. هكذا يستعيد الإنسان بهاءه وبهاء الخليقة الأوّل.

 

مجلة النور، العدد الخامس 2014، ص 226-227

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share