الأرض جسدنا ومرآتنا!
جسدنا لأنّا منها أُخذنا، تربةً، وإليها اشتياقنا، اشتياق الصّنو إلى صنوه. لا إنسان من دون جسد ولا جسد من دون أديم الأرض. ولكنْ، ليس أحد خالدًا، لذا ليست الأرض خالدة. في الكتابات المتأخّرة، قيل عن الإنسان إنّه خالد. هذا عكَسَ مناخًا فكريًّا إغريقيًّا. غير أنّ خلوده، في السّياق الكتابيّ، لا يؤخذ بمعنى فلسفيّ، لأنّ المقاربة العبريّة التّراثيّة لا تتيح لخلودٍ إغريقيّ التّوجّه. لذا كان الخلود، بالمعنى الكتابيّ، قائمًا في الله، لا في ذاته. الله هو الّذي يعطيه، ويبقى الخلود مرتبطًا بمشيئة الله. الخلود، والحال هذه، يستبين مرادفًا للحياة الأبديّة. ولكنْ، ما الحياة الأبديّة؟ هي حياة الله بالذّات! هي إيّاه! “أنا هو الحياة”، قال الرّبّ يسوع. بهذا المعنى كان قوله: “إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم” (يوحنّا 6: 53). تبعًا لذلك، لا يمكن إلاّ أن يلزم الإنسان الأرض وتلزمه لأنّ الرّابط بينهما وجوديّ عضويّ صميميّ لا عرضيّ. وحيث إنّ الإنسان يتّخذ، بنعمة من فوق، في ذلك اليوم، جسدَ المجد، إيّاه الجسد الّذي من أديم الأرض، ولكن على صورة مجد ابن الإنسان الممجَّد (فيليبي 3: 21)، فإنّ الأرض، تبعًا لذلك، تمسي لها هيئةٌ جديدة (رؤيا 21: 1)، موافقة للطّبيعة المتروحنة لذرّيّة آدم الجديد. هيئة الأرض، كما نألفها هنا، تزول، في ذلك اليوم، كما الإنسان، هيئتُه الرّاهنة تزول بالموت. الهيئة الرّاهنة للأرض والإنسان، كما تستبين خواصُهما لعيوننا ههنا. أمّا الأرض، كوجود، فتبقى إلى الأبد في خواص تتيح لها أن تضمّ إنسان الحياة الأبديّة. أمّا الّذين يرتحلون إلى هلاك أبديّ، غير مرضيِّين لله، فهؤلاء لا يضمحلّون، لكن استمرارهم في الوجود لا يأتي من خلود، أي من وجود ذاتيّ دائم، بل من نعمة خاصّة من الله، ما يجعلنا نتشوّف إلى قصْد إلهيّ لم يكشفه الرّبّ الإله لنا، سوى أنّ الله يترك للإنسان حرّيّتَه، ويعطيه الوجود لكي يتعاطاها، لأنّه محبّة، ولو أدّى سوء استعمال الحرّيّة عنده إلى التّمادي في الخطيئة المتمثّلة حتّى في البعاد الأقصى عنه!
ثمّ الجسد من الإنسان لغتُه، والأرض منه مرآتُه. الرّابط بين الإنسان والأرض داخليّ، لا خارجيّ فقط. كما يكون تكون. هو رباط في المسيح. هكذا نظمَ ربّك الأمور. الإنسان معطى أن يُخضِع الأرض (تكوين 1: 28)، ولكن ببركة الله، بالحبّ، بالرّعاية. يسلك بكلمة الله فتحلّ عليه البَرَكة، وإذ تحلّ عليه تخضع له الأرض بما ومَن فيها تلقاء، أو قل يجعلها ربُّها للإنسان جنّة. هذا ناموس ربّك في الأرض. ولكنْ، ماذا يحدث إذا لم يكن الإنسان أمينًا، مطيعًا لربّه؟ تنسحب النّعمة منه وتحلّ اللّعنة. تضطرب علاقة الإنسان بالله فتضطرب علاقة الإنسان بالأرض، لأنّ للرّبّ الأرض وكلّ ما فيها. لكي تعرف طبيعة علاقة الإنسان بربّه، انظر إلى علاقة الإنسان ببيئته! بانحسار النّعمة، تمسي الأرض مضروبة باللّعنة بسبب الإنسان، لا قصاصًا له، بل، بالحري، رحمة، لأنّ ربّك لا يقاصص ولا يعاقب، بل يؤدّب، وبالرّحمة، لأنّ اللّعنة لا تسكن في البَرَكة ولا البَرَكة في اللّعنة. الإنسان المحروم من البَرَكة يصير بحاجة إلى أرض ملعونة ليستمرّ؛ والله شاءه أن يستمرّ لمقاصد تتحقّق في حينه. هذا ما يفضي إلى لعنة الصّليب المستحيل بركةً! ولكي يعطي الرّبّ الإله الإنسانَ فرصة أن يتأدّب، جعل له شريعة، متى سلك فيها أثابه، ومتى أشاح عنها أدّبه؛ وترتيب الله أن يستردّه بترغيب الشّريعة وترهيبها، بمعرفة الخطيئة وطلاقها في ملء الزّمن. أمّا الأرض، كمرآة لواقع الإنسان، فتراوحت حالها، تبعًا لحاله، بين أرض البَرَكة القصوى، وأرض اللّعنة القصوى. إذا سلك الإنسان في مخافة الله يكون له المطر في حينه، وتعطيه الأرض غلّتها ويجعل الرّبّ الإله سلامًا في الأرض (لاويّين 26). الذّئب والحمل يرعيان معًا، والأسد يأكل التّبن كالبقر. لا يؤذون ولا يُهلكون في كلّ جبل قدسي (إشعيا 65). وإذا لم يسلك يزرع باطلاً وأرضه لا تعطي غلّتها وتنطلق عليه وحوش البرّيّة (لاويّين 25).
في هذا الإطار، إذا ما أطاع الإنسان الله فإنّ الأرض، بكلّ ما فيها، تخضع له، لأنّ حسّ إلهها مبثوث فيها. لها مرآتها الدّاخليّة من جهة رضى الله والحال القلبيّة للإنسان! تعكس ما هو من واقع الحال لربّها. هكذا تعاملُ الأرض الإنسان، تلقاءً، كسيّد، لأنّه أحبّها بمحبّة الله. ليس الإنسان بحاجة لأن يفرض نفسه على الأرض. هي تستعبد ذاتها له بالأمانة لله. الأرض لا تكذب ولا يُكذَب عليها. أمّا إذا لم يُطع الإنسان ربّه، فالأرض، تلقاءً، يبثّها الإنسان روح العداوة مع الله، فتتمرّد عليه، لكونها مرآة، وتقاومه. إذ ذاك، يعاملها هو بالعنف ليخضعها بالقوّة، فيضطرب حبْلها، وتردّ هي عليه بمثل قسوته فتثير فيه قلقًا واضطرابًا وتشويشًا!
دونك بعض الأمثلة. القدّيس سيرافيم ساروفسكي أحبّ الله وأطاعه فكانت النّتيجة أنّ الدّبّ أحبّ القدّيس وأطاعه. القدّيس جيراسيموس الأردنيّ اقتنى مخافة الله فجاءه الأسد كالخروف وطلب منه أن يُخرج قصبة اخترقت قدمه، فساعده القدّيس فصار الأسد خادمًا يهابه. أحد القدّيسين جاءه قوم حزانى يطلبون إليه أن يجيرهم لأنّ أرضهم يابسة، وهم محرومون من المطر من زمان. فسألهم: أما تُصلّون؟ قالوا: بلى، ولكنْ بلا فائدة! قال: مستحيل! لا بدّ أنّكم تصلّون بلا حميّة! قوموا نُصلّي! فوقفوا، فرفع يديه إلى السّماء، وما إن فتح فمه حتّى نزل المطر فورًا!
تراثنا مليء بأخبار القدّيسين الّتي تبيِّن كيف أنّ الطّبيعة تخضع لهم وعناصرَها تطيعهم. هذه عندهم أمور بديهيّة، فيما هي عند مَن لا يؤمنون خوارق، أو… ترّهات! مَن صدّق خبرنا ولمَن استُعلنت ذراع الرّبّ (إشعياء 53: 1)؟! تقولون: لماذا لا تحدث مثل هذه الأمور اليوم؟ بل تحدث؛ لكنّ أكثر المسيحيّين، بكلّ أسف، باتوا، هم، أنفسهم، لا يؤمنون، لأنّهم صاروا نفسانيِّين، مشبعين بالرّوح الدّهريّة، يعتمدون التّحليل العقليّ منهجًا لحياتهم، لا يحرصون على بساطة القلب ولا يقيمون وزنًا لسلامة النّيّة!
بلى، للمؤمن المحبّ الله، يأتي الأسد من ذاته خادمًا منجذبًا بنعمة الله، وبنعمة الله وحدها! أمّا غير المؤمن فيحسب الأسد وحشًا، وإذا ما أراد أن يستخدمه فإنّه يروِّضه بالقوّة والسّوط، والخوف، ولا يقربه إلاّ بحرص شديد لئلاّ ينقضّ عليه ويفترسه! العلاقة بينهما علاقة عداوة وخوف وقهر!
كذلك، تعطينا الطّبيعة قوّتها متى سلكنا، في تعاملنا معها، ببَرَكة الله. أمّا الّذين لا مكان للبَرَكة في حياتهم، فيتعاطون الطّبيعة بروح أهوائيّة جارحة! همّهم استغلال الطّبيعة للرّبح. عينهم في الإنتاج كيف يزيدونه ليحقّقوا مكاسب أكبر لأنفسهم. ديدنُهم الاستهلاك على أوسع نطاق لا قضاء الحاجة. ينتهكون الطّبيعة! يقهّرونها بمعنى! يغتصبونها! يستعملون كلّ الوسائل الصّناعيّة والمنتجات الكيماويّة، المضادّة للطّبيعة، ليستخرجوا منها فوق ما تعطيه بحسب ناموس الطّبيعة! يرهقونها! فتمرض، وبدل أن تعطيهم ما هو مفيد تعطيهم ما هو مضرّ لهم، وهم يعلمون ولا يعلمون! ثمّ يحوّلونها إلى مكبّات لكلّ أنواع النّفايات! يسمِّمونها فتسمِّمهم، لأنّه بالكيل الّذي تكيلون به يُكال لكم! يلوِّثون التّربة والماء والهواء، وصولاً إلى أذيّة الغلاف الخارجيّ المحيط بالأرض! المشكلات تبدأ طفيفة ثمّ تتفاقم إلى أن يقضي الإنسان على نفسه بنفسه!
عندما يشعر الإنسان بالخطر نتيجة ازدياد السّخونة في الجوّ وتفاقم الأعاصير وتنامي الزّلازل وارتفاع نسبة التّلوّث والسّموم، وما إلى ذلك، يكون إصلاح الخلل قد بات مستحيلاً باللّجوء إلى الطّرق الّتي اعتادها الإنسان. مهما كانت الوسائل العلميّة المستعملة متقدّمة فإنّها لا تعود تنفع! لماذا؟ لأنّها مغمّسة بأهواء الإنسان! ولأنّ الإنسان باقٍٍ، بعامّة، أسير أهوائه! الموضوع ليس موضوع وسائل متطوّرة! الموضوع موضوع أهواء! العِلم يُتعاطى أهوائيًّا! طالما قلب الإنسان لم يتغيّر فلا يمكن للطّبيعة، في المقابل، أن تتغيّر! تبقى مريضة لأنّه هو مريض! أليست هي مرآته؟! تُشْفَى بنعمة الله، لا بوسائل مصنّعة، متى تاب الإنسان إلى ربّه! طوباك يا خليل! أُصيب بالسّرطان! قالوا: لا يُشفى! أقام في بيته يسمع المزامير على الدّوام! شُفي وصار كاهنًا! أما يشفي الرّبّ الإله الطّبيعة إذا ما عاد الإنسان إلى أبيه السّمويّ؟!
كلام لا معنى له في عالم دهريّ؟! بكلّ تأكيد! لكن الله جهّل حكمة هذا الدّهر واختار أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليُبطِل الموجود (1 كورنثوس 1)! كلام الله بحاجة إلى شيء من الجنون، في هذا الدّهر، وإلاّ لا نقبله!
إصرار البشريّة على التّنكّر لله والإيمان الفاعل بالمحبّة بالرّبّ يسوع المسيح لا يمكن إلاّ أن يفضي بالعالم إلى طريق مسدود!
كلّ اهتمام بالبيئة، اليوم، من دون تغيير في قلب الإنسان، قائم في غرور ولغو وعمى، ولا يعدو كونه للنّاس انتحارًا، مهما تعبوا في إنقاذ البيئة من حال التّدهور الحاصلة، ومهما شعر حكماء هذا الدّهر بالرّضى عن أنفسهم!
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
27 تموز 2014