وَضعت الكنيسةُ عيد رَفْع الصليب بعد أن وَجدت القديسة هيلانة أُمّ قسطنطين الملك الصليب الحقيقي مدفونا في التراب، وكان ذلك في القرن الرابع. في القرن السابع، لما احتلّ الفرس القدس، أخذوا الصليب، ثم أعاده الامبراطور البيزنطي لرفعه. هذان الحدثان، حدث العثور على الصليب وحدث إعادته، يؤلفان معًا عيد رفع الصليب المكرّم.
استعدادًا لهذه الذكرى، قال لنا إنجيل يوحنا: “كما رَفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن البشر لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية”. الحادثة التي يشير اليها الإنجيل هي أن العبرانيين لما كانوا عائدين من مصر، لدغتهم الحيات في صحراء سيناء. طلب الشعب من موسى أن يصلّي الى الرب ليرفع عنهم خطر الحيّات. فصلّى موسى لأجل الشعب وقال له الرب: “اصنع لك حية محرقة وضعها على راية، فكل من لدغ ونظر اليها يحيا. فصنع موسى حية من نحاس ووضعها على الراية، فكان لما لدغت حية انسانا ونظر الى حية النحاس يحيا” (عدد ٢١: ٨-٩).
الحية النحاسية هي بلا ريب عندنا رمز للمصلوب. فإن من نظر الى المصلوب بإيمان واتخذه مخلّصا له يُشفى من لسعة الشيطان، من لدغة الخطيئة.
وبعد هذا يتابع يوحنا الحبيب في إنجيله قول المخلّص: “هكذا أَحبّ اللهُ العالم حتى بَذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية”.
قبل ان يجيء يسوع كان الله يتصل بشعب وشعوب، بالشعوب كلها. كان يرسل إليهم المطر والشمس، ويفتقدهم بالفلسفة وبالأفكار الصالحة التي كانت في الشعوب الوثنية. كان هذا نوعًا من الافتقاد الإلهي غير المباشر. وأَرسل الله أنبياءه ليكلّموا العالم القديم عنه ويُعبّروا عن مشيئته، ليؤدبوا الشعب ويُصلحوه ويُنقّوه بالكلمة. ثم لما جاء كمال الزمان الذي حدده الله بحكمته، أَرسل ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الشريعة، متجسدا عائشا بيننا، ذائقا ما نذوقه من الآلام، مُحبّا لنا. ثم تألّم ومات عنّا وقام. هكذا صار الله بإرسال ابنه في الجسد ليس فقط قريبا من الناس كما كانوا يعرفونه قديما، ليس فقط حانّا على البشر، ولكنه صار بين البشر، واحدا منهم، يذوق ما يذوقون من ألم ويفرح لأفراحهم ويعطيهم نفسه.
في الماضي كان الأنبياء يُعطون من كلمات الله، أما الآن فقد جاء الله ذاته الى البشر وعاش كواحد منا ليرفعنا الى الله. وكان هذا كلّه في الصليب وعلى الصليب، اي ان المحبة التي أَحبّنا الله بها وجدت تعبيرها الأسمى والأكمل لما تجسد وبذل نفسه عطاء وحبًّا ورقد في الموت كما الناس فيه بحيث إن كل مائت يجد المسيح رفيقا له. من مات فالمسيح يموت معه. ولكن كما رَفع المسيحُ نفسه من القبر، هكذا يرفعنا جميعا من القبور، ليس فقط في اليوم الأخير، ولكنه يرفعنا الآن من قبر الخطيئة. الانسان يدفن نفسه في الخطيئة. ولكن بالتوبة، بالغفران، بالحب الذي يهديه لنا المسيح يجعلنا أقرانا له، إخوة له. منذ الآن نحن جالسون مع المسيح عن يمين العظمة. لذلك اذا أَقمنا عيد الصليب في الأحد القادم، فليكن هذا فخرا لنا واعتزازا، اعتزازا بأننا محبوبون، اعتزازا بالرب الذي أعطانا ذاته في أجسادنا. ننال الرب اذ نأخذ القرابين في أرواحنا وأجسادنا. لذلك نحن داخلون في قلب الله.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
نشرة رعيتي
7 أيلول 2014