الرّضاء وشرود التاريخ! – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Monday September 8, 2014 66

بعض أصدقاء لنا، قام، منذ مدّة، بزيارة إلى كمبوديا وفييتنام. تركّز اهتمامهم، بخاصّة، خلالها، على النّاس. ولقد عادوا بانطباع جميل أنّ الشّعب، هناك، فقير جدًّا، بعامّة – أقلّه هذا ما يطالعك – لكنْ، فيه فرح ووداد وحبّ للحياة وتوثّب للعمل وتهذيب واحترام للنّاس…

   ما هو الأساس الّذي يشكِّل قوام الحياة المشبعة بالمعنى؟ سؤال متروك للتّأمّل! في ظنّي أنّ الجواب هو في الرّضاء، وأنّ مأتاه من تراث، من قيم، من حضارة، من تنشئة، من مجتمع متماسك، من مِسحة إلهيّة حوفظ عليها في القوم، فرسخت وسرت وامتدّت في مَن يثمِّنون الأمانة قيمةً، وهي فيهم الحياة، على بساطتها، وفي أصالتها، وليست ثمّة قيمة، بإزائها، تضاهيها. مِن ذا يأتي الشّعبَ سلامٌ تلقائيّ، أو قل مناخٌ وجدانيّ يضيء النّفوس، كما الشّمعة من الشّمعة من جبّ النّور.

  التاريخ لا يحتاج الشّعب، أيُّ شعب، كيانيًّا، إلى الكثير؛ ولا القليلُ يكدِّره، بالضّرورة. الشّعب، أصيلُ التّراث، يعرف أن يحجِّم ذاته وفق ما يؤتاه، ولا تعكِّر الظّروفُ سلامَه العميق. فإذا ما كان لديه هذا الواقع مقبولاً، كَمِن العاديّات الدّهريّة، محتضَنًا بشكر، فالمناخ الدّاخليّ يبقى مناخ برَكة وفرح وسلام وراحة حقّ في كلّ حال. لا ممّا يأتيه يستمدد اتّزانه بل من موقفه منه. رجلاً لكلّ الفصول يستبين رجلُ الأصالة. ما تنبعث منه كلُّ مكرُمة، وكلُّ هدأة قلب، وكلُّ إشباع، هو القلب، هو الكيان. المناخات الوجدانيّة في النّاس يتوارثونها! البأس في الشّدائد إرث تربويّ! طبعًا، من الفقر المدقع ما يمكن أن يطيح التّماسك الدّاخليّ في الإنسان، وأن يفكّك ما تتناقله الأجيال من حضارة معيشة؛ ولكنْ، لا شكّ أنّ الرّغد في العيش يعرِّض كلّ التّماسك الدّاخليّ، للشّخص، كما للجماعة، للاضطراب، والشّديد أحيانًا، حتّى الانحلال، إذا ما استيقظت الأهواء في النّفوس، واحتدّت، وتنامت الأنانيّات، وتكلّست، وهيمنت روح القنية في النّفوس، حتّى اللاّحسّ الإنسانيّ. هذا، لخطورته على البنية الدّاخليّة للإنسان، مبعَثٌ للاستنتاج أنّ الإنسان، كلَّ إنسان، بحاجة إلى نظامِ صحوٍ وحذرٍ وجهاد، حفظًا لسلامة نفسه، حتّى لا يؤخذ بثقل المصاعب، مصاعب الحياة الدّنيا، أو بغواية البحبوحة والرّخاء. هذا، في ذاته، بحاجة إلى مواجهة ليست بقليلة، وإلاّ نجدنا بإزاء مجتمع لا يلبث، بيسرٍ، أن يتفكّك، لجنوح القوم فيه، كلٍّ إلى ما يخصّه وإلى ما يرضي غرورَه، والنّفسُ أمّارة بالسّوء، ما لم تُضبَط في انتمائها حتّى لا تسير على سجيّتها وتميع!

   المال، أو ما يعادله، على صعيد القنية، سلاح خطر! كالمُسْكِر هو إلى نفس مائلة إلى حبّ المُسْكر! كلٌّ معطوب على حبّ القنية. هذا يغذِّي عشق الذّات. لذا لا يناسب أن يكون للإنسان الكثير. يبطر ويفسد! لذا، إذا ما عدل، فإنّه يحذر الغنى أكثر من الفقر! الإنسان، بطبعه، فقير. أما يأتي من تراب ورماد؟! الغنى خبرة أخرى! توهمك بما لست إيّاه! تدفعك إلى الاستغناء عن الله والاستغناء بنفسك! الفقر، إلاّ الشّديد جدًّا، لا يشكّل خطرًا على تماسك البنية الدّاخليّة للإنسان! بالعكس، يزيدها تراصًّا! أمّا المال، لا سيّما إذا زاد، فيُفرغ المرءَ، أو قل يمكن أن يفرغه من كلّ إنسانيّته! المال قابل لأن يحيل الإنسان على صورته، وأن يملك عليه بجعله يستمدد هوّيّتَه ممّا يملك، وكذا أخلاقه! الخطر المتمثّل في هذا المسار يعطي قارئ سِفر الأمثال أن يفهم ما وراء القولة: “لا تعطني فقرًا ولا غنًى. أطعمني خبز فريضتي، لئلاّ أشبع وأكفر، وأقول: “مَن هو الرّبّ؟” أو لئلاّ أفتقر وأسرق وأتّخذ اسم إلهي باطلاً” (30: 8 – 9)!

   هذا يفضي بنا إلى ما يدور عليه الكيان المتّزن السّليم في الإنسان، وأقصد به الرّضاء. هذا، العينُ فيه هي على ما للحاجة وكفى! لا القنيةُ نعظِّمها حتّى التّأليه، ولا نستخفّ بها حتّى الادّعاء بالتّجرّد الكامل! هذا كلام في الهواء! ما لقضاء الحاجة نوليه حجمَه! بالحسّ الدّاخليّ نفعل ذلك! وما زاد على ذلك يُلهِب، وما نقُص، بمقادير، يُضني! ثمّ نُميل الطّرْفَ، في غير اتّجاه، إلى ما يُغني الرّوحَ بالعلاقة الفوقانيّة، بالله، واستطرادًا بالإزائيّة، بعباد الله!

   شرود التّاريخ بالقنية، أوّلاً، لذا هدايتُه بالرّضاء الإلهيّ!

   المال، حبّ المال، إذا ما قبض نفسًا لا يخليها إلاّ فارغة من كلّ مقوِّم إنسانيّ. طبعًا، ليس بالضّرورة في كلّ حال، ولكن في مجمل الأحوال! بعض ذوي المال كبارُ النّفوس، ولكنْ، هؤلاء لا يُقاس عليهم. شواذًا على القاعدة يَطلعون! الغنى الحقيقيّ كامن في سعيك لئلاّ تسمح لأمر أن يتسلّط عليك، ولعادة أن تسودك. لا زلتُ أذكر، من سنين، أحدَ أصدقائي القدامى، لمّا أبدى أنّ قاعدة الحياة لديه أن يقطع كلّ عادة أو ممارسة تسطو عليه وتستأسرُه! طبعًا، وحده ربّك الاستثناء: تستزيد منه بلا حدود لأنّه ملء وجودك الّذي لا قرار له! وهو اكتمالُ كيانك وغنى بنيانك! من هنا كونُ الرّضاء نظامًا تأخذه من سواك بالتّناضح، وتحافظ عليه، وتنميه، لأنّ قاعدة الاتّزان المفتوح على الأبديّة الإلهيّة كامنةٌ فيه!

   الرّضاء هو الميراث البشريّ الّذي يتيح للإنسان أن يقف أمام ربّه منفتحًا عليه. عمليًّا، في نهاية المطاف، الرّضاء أن تكون إلى ربّك! لذا كان، أقصد الرّضاءَ، جملةَ ما له، وما يمكن أن تكون له قيمة في حياة ابن آدم، بعد السّقوط! كلّ فضيلة، أو أَثَرِ فضيلةٍ، فيها ما هو من الرّضاء! النّسيج الدّاخليّ فينا، والحال هذه، يكون قابلاً لأن يمتصّ الظّهور الإلهيّ وعملَ روحِ الرّبّ، بتلقائيّة. الرّضاء لا يقاوِم ما لروح الله لأنّه من معدنه. ربّما يقاوم الرّضيّ ما يُصوَّر أنّه الله، وهو يعني، بالحريّ، مبادئ وأيديولوجيّات تُعزَى إلى الله، أو ممارسات تُقترَف باسم الله، وليست من روحه! استطرادًا أقول، كثيرون يقاومون المسيحيّة لا لجوهرها، بل لارتباطها، زورًا، في الأذهان، بممارسات سياسيّة اجتماعيّة جارحة! ثمّة مَن يرفض المسيحيّة، مثلاً، لسلوك أسقف أو كاهن أو راهب أو أحد العامّة، ممّن تغطّوا أو يتغطّون بما لله ليقيموا آمنين في أسوائهم! وجوديًّا، التّمييزُ لازم بين مسيحيّةِ مسيحِ الإنجيل والقدّيسين ومسيحيّة المؤسّسة الكنسيّة التّاريخيّة! هاتان تتداخلان ولا تتماهيان! في الأخيرة صخبٌ وتشويه، هنا وثمّة! كم من ممارسة تاريخيّة انحرفت فأساءت ونَسبت إلى الله ومسيحه سوءًا، حتّى إلى هذه السّاعة! ذاكرةُ التّاريخ لا تموت! الوقت، بالعكس، يزيدها حدّة! تكفيك، لنا، نحن المسيحيّين في الشّرق، ما خلّفته الصّليبيّةُ من آثار جارحة لشهادتنا! قلنا، ونعيد القول، الرّضاء يفتح الإنسان على الله والإنسانَ على الإنسان! ولكنْ، يأسف المرء أن يجد في جسد المسيحيّة التّاريخيّ رضوضًا وجراحًا تبعث أقوامًا، فيهم الرّضاء وسلامةُ الطّويّة، على رفض المسيحيّة ومحاربتها، وهم لا يعرفونها! وما يزيد الطّين بلّة، سلوكُنا، نحن، اليوم، أو بعضنا، بغير لياقة وترتيب، في أداء الشّهادة الحقّ للإنجيل. ولا أظنّ خطأً الاستنتاجُ أنّ أقوامًا عديدين، من غير المسيحيّين، ربّما كانوا، لرضائهم، أدنى إلى مسيح الرّبّ من الكثيرين من المسيحيّين، الّذين باتوا في وضع المرتدّين، وهم، أي غير المسيحيّين، أولئِك، وإن كانوا لا يعرفونه بالكلمة، فهم إليه بشوق روحهم! القول أنّه بسببنا يُجدَّف على ابن الله بين الأمم قول كتابيّ موجِع! ولكنْ، حقٌّ التّسآل: ألسنا، بالحريّ، في كنيسة المسيح، نمدّ خطايانا، اغتطاء به، ونغضُّ عن جراحه وقيامته وفرحه ومحبّته في أجسادنا، كما يليق؟!

   شعوري هو أنّ ثمّة تغييرًا جارٍ في اتّجاهات التّاريخ! عندك ارتداد، بين المسيحيّين، كبيرٌ في مداه، فيما تطالعك شعوبٌ، إمّا انحفظت من دهريّة هذا الدّهر، أو تعبت منها، تبحث، بحسِّها، عن المَشُوق إليه. ما سبق أن قيل إنّ كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتّكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السّموات، وأمّا بنو الملكوت فيُطرَحون إلى الظّلمة الخارجيّة، أقول هذا لا فقط كان ليشير إلى ما خصّ اليهود الكتابيِّين، بل إلى حركة مدّ وجزر، في التّاريخ، تخلط الأوراق على غير وعي من أهل البيت، بالضّرورة، أو القيِّمين عليه. البادي، أنّ السّواد الأعظم في الكنيسة، المعروفة لدينا، يتنفْسَنُ، أو يتدهْرَنُ، فيما الجائعون إلى كلمة الحياة، بالباب، وليس مَن يُطعمهم خبزًا جوهريًّا!

   المشكلة أنّنا نؤخذ بالحضارة المسيحيّة، نمدّها، كحضارة، ونغضّ الطّرف عن بساطة الرّوح وأصالة الحقّ! العالم جائع إلى المنّ السّماويّ لا إلى دروس فيه! ليست الحاجة إلى مَن يعلِّم فنّ صناعة الشّمع، بل إلى مَن يضيء شموع النّاس! أُريد رحمة لا ذبيحة!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
7 أيلول 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share