الآخر عظيمًا

mjoa Monday October 20, 2014 118

الآخر عظيمًا

العلاقات البشريّة هدفها الأعلى أن يغدو كلّ إنسان كبيرًا في النعمة والحقّ. و»كلّ إنسان»، تعني كلّ إنسان، أيًّا كان. فكلّ مَن كان معنا وإلينا على دروب حياتنا سيسألنا الله عمّا فعلناه معه.

حتّى لا يفهم أحد أنّنا، فيما نُطلق هذا التعميم، مطمئنّون إلى علاقة القريبين بعضهم ببعض، أي أنّ ما يثيرنا هو وجع الانقسامات (السياسيّة وغيرها) التي تفتّت الناس في مجتمعنا باطّراد مرعب، أودّ، سريعًا، أن ننظر إلى أحوال بعض الذين يجب أن تجمعهم صلة ودّ. وإذا اخترنا العلاقات الزوجيّة مثلاً أوّل، فيبدو أنّه من النادر أن تجد بين المتزوّجين وعيًا صارخًا يشبه الهدف الذي أراده الله لخيرنا جميعًا، أي (أن تجد) مَن يسعى إلى أن يكون الآخر عظيمًا في كلّ ما ينفعه. فمعظم المتزوّجين تحكمهم عقدةُ أن يكون كلّ منهم هو الأوّل في كلّ شيء. عقدة، أي مرض خبيث يفتك بما سمّاه القدّيس باسيليوس الكبير «سلام العائلات». وهذا، أحيانًا أو في معظم الأحيان، تراه يضرب أشخاصًا لهم مكانة رفيعة في مجتمعهم. ويتخبّط الناس في مصاعب مُرّة. ويُلقى بعضهم، بإرادته أو من دون إرادته، خارج حدود الوعي.

دونكم هذا المثل الذي رواه لي شخص مشهود له. قال: إنّ ثمّة مهندسًا معمارًا تزوّج من فتاة تصغره بسنوات عدّة. هذا دفعته ظروف حياته، بعد سنين على زواجه، إلى أن يسافر، ليعمل في الخارج. في غيابه، بدت زوجته، سريعًا، أنّها غير قادرة على autreأن تعتني بأمور بيتها. فهي كانت، ولا سيّما في فترة غيابه الأولى، تستصعب، مثلاً، أن تقصد المحالّ التجاريّة، لتشتري ما يمكّنها من إعداد الطعام لها ولولدَيْها القاصرَيْن. فهذا أمر من الأمور التي كان زوجُها نفسُهُ هو المسؤول عنها (وأهلها قَبْلَ زواجها، كما استطرد الراوي)! وكانت، كلّما احتاجت إلى أيّ غرض كان، ترجو إحدى جاراتها، التي تقطن معها في البناء عينه، أن تحضره لها متى خرجت، لتتسوّق. لم تكن المرأة، وفق رواية الراوي، محدودةً فكريًّا، بل، على العكس، كان ذكاؤها متّقدًا. إلاّ أنّ غياب زوجها جعلها تبدو على غير ما هي عليه. غاب زوجها، فبدت غائبة. ثمّ دفعها واجبُ رعايةِ مَن معها إلى أن تتعلّم ما كان عليها أن تتقنه قَبْلاً.

لا أريد، بنقلي هذا المثل، أنّه قابل للتعميم الكلّيّ، بل أنقله مثلاً من أمثلة عديدة يمكن أن تدلّ على ما يفعله تحجيم الناس الذين هم معنا وإلينا، وتاليًا بنا، إن كنّا نعي حقّ أهمّيّة أنّ الله، الذي قيل إنّه لا يكفّ عن العمل، قد أوجدنا من أجل أن نحقّق إنسانيّتنا في أن نعمل الصالح بعضنا لبعض دائمًا.

أمّا إذا أخذنا المؤمنين في الكنيسة مثلاً آخر، فمعلوم أنّ الذين يعملون على أن يكون الإخوة كبارًا في كلّ ما يرضي ربّهم، هم قلّة عزيزة أيضًا. فالمؤمنون، في كنيسة الله أبي الجميع، يكاد كلٌّ منهم يكتفي بنفسه. يصلّي بعضهم في الجماعة، بلى. يصومون، أيضًا بلى. وقد يعرف بعض هذا البعض إيمان كنيسته. لكنّ معظمهم يظهرون لا يعون دورهم في بثّ روح الوعي في كلّ عضو أنعم عليه ربّه بما يؤهّله لأن يرتقي إلى وعي عظيم. طبيعة العلاقة، التي تجمعنا في كنيسة الروح القدس الذي وزّع مواهبه على الكلّ، هي، للأسف، طبيعة لا يعي الكثيرون بيننا ما يستوجبه حقّها. بلى، إنّها تُرى هنا وهناك. ولكنّ ما يُرى يبدو محصورًا. لا يهتمّ الكثيرون بأن يعرفوا أنّ الكنيسة موئل تربية، أي أنّ أعضاءها كلّفوا أن يخدموا قداسة الله بعضهم في بعض. لا يهمّهم أن يدركوا أنّ معيار العضويّة الكنسيّة يكمن في أن يُسهم كلّ عضو، منحه ربّه وعيًا، في إنجاب أشخاص فاعلين في الجماعة التي ينتمون إليها. كلُّ أخٍ مطلوبٌ كبرُهُ منّي، كلُّ أخ، أيًّا يكن عمره أو جنسه أو علمه أو موقعه الكنسيّ أو الاجتماعيّ، أمر بات خارج المألوف تقريبًا. وهذا، الذي يتعلّق بدفع المؤمنين إلى أن يزداد وعيهم الكنسيّ، يمكن أن نراه، أيضًا، في أيّ مرفق آخر من مرافق حياتهم. فتقريبًا، لا يهتمّ الإخوة (أعضاء الرعيّة الواحدة) بتشجيع بعضهم بعضًا على الدراسة مثلاً، أو، إن كان واحد أو اثنان أو عشرة عاطلين من العمل، على إيجاد عمل لهم، ليرتزقوا، ويحيوا، هم وذووهم، في كرامة أبناء الله. كنيسة يسوع المسيح الإله المتجسّد، لا يشبهها الكثيرون!

كدت أنهي المقالة على وصف بعض أحوالنا المتعبة. هل تراني أعتقد أنّنا بلا شهادة حسنة؟ حاولت أن أشير إلى أنّ هناك أمورًا حسنةً (محصورة). وهذه كان بإمكاني أن أروي منها. هل أخافني أن نندهش بأنفسنا؟ بل أن نخسر أن ننظر إلى أنفسنا نظرةً واقعيّة. كيف نرتقي إلى أن الالتزام الكنسيّ (والحياتيّ) هو فاعل دائمًا؟ هذا ما أردت أن تشجّعنا هذه السطور على أن نطرحه على أنفسنا الآن.

الشيء، الذي أودّ أن أزيده في هذه المساهمة، هو أن أرجو أن ندرك أنّ الآخر عظيم فينا أو من دوننا. هذا، إن تبنّيناه نهجًا لكلّ علاقة تربطنا بالناس قريبين وبعيدين، يصحّح إنسانيّتنا. ربّما يعتقد قارئ أنّ هذه المساهمة تريده أن يسهم في أن يكون الآخرون عظامًا من أجلهم. وهذا يكون صحيحًا جدًّا إن تصالحنا مع أنّ الناس، إن خدمنا عظمتهم، يسهمون في خدمة عظمتنا أيضًا. لا أحد عظيمًا إن اكتفى بنفسه. هذا ما جاء مسيح الله من أجل أن يكتبه على لحم قلوبنا، لنقوم إلى إنسانيّة جديدة.

كيف يكون الإنسان الآخر عظيمًا في كلّ ما يرضي ربّه، أو كيف نخدم (أي يخدم كلٌّ منّا) هذه العظمة بفرح واعتناء ظاهرين؟ هذا، في آن، معيار العضويّة الكنسيّة ومعيار حضورنا في العالم.

نشرة رعيتي

26 تشرين الأول 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share