الفقر – الأب ميخائيل دبس
ظاهرةٌ اجتماعيّةُ رافقتْ نشوءَ مجتمعاتٍ ما عادتْ تكتفي بتأمين طعامِها وملبسِها ومسكنِها، بل سعت لإنتاج فائضٍ عنها وتخزينه والاطمئنان به تجاه آتٍ مجهول. المحرّكُ الأوّل لهذا التخزين، الذي سمّي فيما بعد رأس مال، الخوفُ من العوَز وتأمين رغادة عيشٍ تخفّفُ عنه ما كان يلحظُه عند أسلافه من شظف عيشٍ كان يرى فيه تهديدات موتٍ. فصار الخوف من الموت مبعثاً لكلّ خوف.
في اللحظة التي ابتدعَ فيها العقل البشريّ وسائل إنتاج يتخطّى حاجةَ الإنسان اليوميّة، صار أسيرَ سعيٍ لا يتوقّف ونَهَم لا يَشبَع. فِعْلُ العقلِ والذكاء عندَە لم يقفْ عند حقِّ الدفاع عن ذاته وتأمين الحياة بكلّ مستلزماتها، بل غدا وسيلة استكبار على الآخر واقتناصِ خيراتِ هذه الأرض من أمامه. ستّون في المئة من سكّان العالم هم فقراء. حصَّةُ هؤلاء من الناتج العالميّ لا يتخطّى الخمسة في المئة.
خَزْنُ الخيرات، بكلّ اشكالها، هو ثمرُ عقلٍ مريضٍ يظنُّه صاحبُه أنّه الأذكى والأحكم. بَيْدَ أنّ ذكاءَە جهلٌ. ألمْ ينعتِ الكتابُ المقدّس صاحب هذا العقلِ بالجاهل (مثل الغني الجاهل لو 12، 16-21). يكمن جهلُه في أنّه يركُن إلى ما لا يُركنُ إليه، ويحيا بما لا حياة فيه.
الغنى سابقٌ للفقر وليس العكس. هو أوّل مُسبِّبٍ للفقر. هذه مقولةٌ علميّة وليست مناقبيّة أو عاطفيّة. المنطقُ والتاريخُ يُقرِّان بهذا. الفقر ليس قدراً لا مناص منه، بل نتاج بشريّةٍ ساقطةٍ توهمّتْ أنّ أمانها بما تُخزنُ. الخوفُ هو الموجِّه الوحيد لسلوكها . هي الخائفة بامتياز، مهما جهدت لتبينُ قوّتها وعِزّتها. ألا يُقال “إنّ رأسَ المال جبان”.
مخطئٌ من يظن أن لا حلّ للفقر، وأنّ العجبَ والانذهال والإحسانَ والتحسّرَ هي المواقف الوحيدةُ الممكنةُ تجاهه. “عُرِف السبب وبطل العَجَب”. هذا ما يُقال. السبب هو سياسات اقتصاديّةٌ، ضرائبيّةٌ واجتماعيّةٌ تخطّط وتشرِّعُ. تشريعاتُها لا يُنزِّلُها الله، موزّعُ الأرزاق، على الشعوب. الحلّ هو تشريعاتٌ تقفُ في وجه هذا الوحشِ النّهم الذي يصطنعُ الفقر وينشرُە في العالم.
تعايشت الكنيسة في تاريخها مع العبوديّة. لم ترفضها كلّيّاً بل سَعَتْ لأنْسنتها قدرَ الإمكان. سكّنتْ أوجاعها إلى أن كانت لها اليد، ولو متأخّرةً عن غيرها، في إزالتِها كنظام اجتماعيّ. الجميع اليوم يمجُّ العبودية ويحاربُها من خلال تشريعاتٍ صارمةٍ، بالرغم من استمرارِها بأشكال أخرى.
الفقرُ أقسى من العبودية، وأشدُّ إيلاماً، وأقبحُ عاراً. هل ستبقى الكنيسةُ متأخّرةً عن غيرها أيضًا في محو الفقر من العالم أو على الأقل في فضحِه ومواجهتِه؟ طبعاً هو لن يُمحى وكذلك العبوديّة. كيف لكنيسةٍ زعيمهُا المسيح وكتابُها الإنجيل والأنبياء وقدّيسوها أمثال باسيليوس الكبير أن تبقى هانئةً في عالم يسحق الفقرُ إنسانيّة ستّين بالمئة من سكّانِه؟ نحن لا نطلب أن تتحوّل الكنيسةُ إلى دولة مشرِّعة، بل من حقّنا عليها أن تكون باكورة مجتمع يشحُّ فيه الفقرُ ليكونَ ومضةً قياميّةً في عتمةِ سقطاتِ هذا الدهر.
لقد عرّف الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الفقر بأنّه “انتقاصٌ في الحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة بما فيها الحصولُ على الغداءِ الملائمِ والتربيةِ الأساسيّةِ والعنايةِ الصحيّةِ والمسكن وكذلك مياهِ الشرب وتجهيزات الصرفِ الصحيّ”. حقوق العيشِ التي يحدّدها هذا التعريفُ هي الحدّ الأدنى الذي يجب أن يُصان. إنّ الفكر الآبائي منذ عشرات القرون ليس غريباً عن هذا التعريف فهم سلّموا بحقوقٍ ورفضوا حجبَها عن الناس واعتبروها بمثابة الهواء والشمس لا يُمكن حجبها عنهم.
هذه الحقوق، اليوم مؤمّنةُ للجميع في بلدانٍ عدّةٍ تُعتبر أقلَّ تديُّناً من مجتمعاتنا المسمّاة “متدينة”.
متى سَتُمسْحِنُ الكنيسةُ العلومَ السياسيةَ والاقتصاديّة؟ يدرَّس في معاهد اللاهوت علم النفس المسيحيّ، علم الاجتماع المسيحيّ، وعلم التربية المسيحيّة. متى ستُدرّس فيها العلوم السياسيّة والاقتصادية المسيحيّة؟ ألا يجب على الكنيسة أن تنتج، إضافةً إلى اللاهوتيّين والإكليريكييّن سياسيّين ورجال اقتصاد يسخّرون عقولهم ومجملَ حياتهم لإنتاج سياسات اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ مغايرةٍ ومواجهةٍ للسياسات المتوحّشة السائدة اليوم؟ كثيرون من المؤمنين الصادقين يعملون في عالم السياسة والاقتصاد والمال. لكنّهم، من حيث يدرون أو لا يدرون يُرْمَوْن في معصرة السياسة الماليّة الجائرة، فتُسْتغلّ قدراتُهم كوقودٍ في مصانعِ الفقر في العالم.
الفقر، عندنا، فضيلة، لكنّ الفضيلةَ خيارٌ طوعّي. ليس لك أن تُغْقر البشر أو أن تصمت عن غنىً يُفقرِهُم لتجعلهم أفاضل. على الكنيسة أن تُسكّنَ أوجاع الفقير بالتعليم والصلاة والإحسان. ولكن عليها أيضًا ان تبحثَ عن مُسبّبات هذه الأوجاع تمهيداً لعلاجها. إنطلاقاً ممّا ذُكر هنا، علينا أن نفهم ما قيل في الكتاب: “يا ربّ، من مثلك منقذُ المسكين ممّن هو أقوى منه، والفقير والبائس من سالِبِه”(مز 35، 10).
“إنّه ينجّي الفقير المستغيثَ… ويخلّصْ أنفسَ الفقراء، من الظلم والخطف يفدي أنفسهم” (مز 72، 12).
“أقضوا للذّليل واليتيم، أنصفوا المسكين والبائس، نجّوا المسكين والفقير وأنقذوهما من يد الأشرار”. (مز 82، 3-4).
“ظالمُ الفقير يعيّر خالقه، ويمجّدُە راحمُ المسكين” أم 14، 31.
نشرة الكرمة
19 تشرين الأول 2014