المريميّات والمريميّون – الأب جورج مسّوح
أن يحتفي اللبنانيّون بمريم، لمناسبة عيد بشارتها، يعني في جملة ما يعنيه أن يتحلّى اللبنانيّون بأخلاق مريم ويتجمّلون بفضائلها ويتزيّنون بنهج حياتها. فاللبنانيّون هم من في حاجة إلى صلوات مريم وتضرّعاتها، لا العكس، ذلك أنّ تكريم اللبنانيّين لها ليس أعظم من تكريم الله لها ولن يضيف لرصيدها شيئًا لدن الله تعالى.
اللبنانيّون إن أرادوا أن يحتفوا بمريم عليهم أن يحتفوا بها كما احتفى بها ابنها السيّد المسيح. فالإنجيل بحسب لوقا يخبرنا أنّ امرأة بعد أن عاينت إحدى معجزات المسيح صرخت مادحة إيّاه: “طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما”. فأجابها يسوع: “بل طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها” (10، 38-42). المرأة أرادت كما هي الحال عند العامّة امتداح ما هو طبيعيّ وناتج عن الطبيعة، أي التوالد والتناسل والتكاثر، وهذه كلّها ليست بفضائل، إنّما هي محكومة بعوامل بيولوجيّة وسواها. فصوّب يسوع المسألة نحو وجهة أخرى وأكسبها ما يعلي من شأن الإنسان وخياراته الحرّة. فقال إنّ الطوبى لا ينالها الإنسان بسبب التناسل، بل ينالها مَن ينفّذ كلمة الله ويعمل بموجبها.
ليست القرابة الطبيعيّة بين الأمّ وولدها هي أهمّ ما يربط السيّدة مريم بابنها السيّد المسيح. هي استحقّت الطوبى ليس لأنّها أمّه وحسب، بل لأنّها خضعت لمشيئة الله وعملت بمقتضياتها. وهذا ما يؤكّده الإنجيل بحسب متّى حين قال له أحدهم إنّ أمّك وأخوتك يسألون عنك، فأجاب قائلاً: “مَن أمّي ومَن أخوتي؟ فإنّ كلّ مَن يعمل مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمّي” (12، 46-50). ليست المسألة إذًا مسألة عائليّة أو لها صلة بالتوالد وحسب.
اللبنانيّون إن شاؤوا التعييد لمريم عليهم أن يتخلّوا عن التفاخر بالكثير من الأمور التي تشوّه إيمانهم وديانتهم. فالتفاخر اللبنانيّ بالعائليّة أو بالطائفيّة أو بالمذهبيّة أو بالمناطقيّة هو نقيض الحالة المريميّة، ذلك أنّه مجرّد تفاخر بعصبيّة قائمة على اللحم والدم. وابن مريم أتى ليلغي “حاجز العداوة” الذي يفصل بين الإنسان وأخيه الإنسان، ولا سيّما في المجتمع الواحد. فلا يمكن مَن يستعلي بعائلته ويستكبر بطائفته ويزهو بمذهبه أن يعيّد لمريم تلك المرأة التي تخلّت عن كلّ أمجاد هذه الدنيا الفانية طلبًا للحياة الحقّ.
اللبنانيّون إن شاؤوا التعييد لمريم عليهم أيضًا أن يكتسبوا المزيد من التواضع في تعاملهم بعضهم مع بعض ومع الآخرين. لذلك عليهم الابتعاد عن التعامل باستكبار مع مواطنيهم المختلفين عنهم بالطائفة أو بالمذهب، أو مع الذين يحيون في وطنهم من غير اللبنانيّين. وليس من عيد حقيقيّ يجمع اللبنانيّين قبل أن يجاهدوا جميعًا ضدّ كلّ تمييز طائفيّ أو مذهبيّ أو عرقيّ (السيّدات العاملات في المنازل) أو جنسيّ (حقّ المرأة اللبنانية المتزوّجة من أجنبيّ بمنح ابنها جنسيّتها).
اللبنانيّون إن شاؤوا التعييد لمريم عليهم أن يتحلّوا بالحرّيّة وعدم العبوديّة للخطيئة والشهوات. فمريم حين سمعت دعوة الله إليها في البشارة لم تتردّد ولو هنيهة واحدة، بل استجابت لهذه الدعوة الإلهيّة قائلةً: “ها أنا أمَة الربّ، فليكن لي بحسب قولك” (لوقا 1، 38). جواب مريم ليس جبريًّا، بل هو نابع عن حرّيّة إنسانيّة مسؤولة. حرّيّة مريم مصونة حتّى أمام قدرة الله العليّ. هو لم يلزمها بولادة المسيح بل احترم الله حرّيّتها التي هو نفسه مَن وهبها إيّاها. انتظر الله من مريم أن تقول نعم، وقد كان بمقدورها أن تقول لا، فقالت نعم. هنا بدأت سيرة مريم مع القداسة.
الحرّيّة ميزة يتمتّع بها الإنسان من دون المخلوقات كافّة. فمقابل حواء التي أرادت بمعصيتها الله أن تصبح إلهة، قالت مريم: “أنا أمَة الربّ” وأطاعت كلمة الله. أمّا المفارقة فتكمن في سقوط مَن شاءت أن تكون إلهة، وفي سموّ مَن أقرّت أنّها “أمَة الربّ”. حواء الأولى كانت في الفردوس وسقطت، لم يحمها كونها في الفردوس، أمّا مريم فكانت في العالم، ولم يمنعها كونها في العالم أن تصون نفسها من دنسه. من هنا نرى أنّ جواب مريم ليس سوى ردّ مباشر على تجاوب حواء مع الأفعى. لذلك كان أساسيًّا أن تكون مريم حرّة، كما كانت حواء حرّة، فكما أدّت حرّيّة الأولى إلى السقوط أدّت حرّيّة الثانية إلى الحياة.
أدرك المسيحيّون، منذ نشوء الكنيسة، أنّ المسيح حين قال ليوحنّا أنّ مريم أضحت أمّه، إنّما توجّه إلى جميع المؤمنين به، إلى أحبّائه وخلاّنه، بهذا القول. مريم أصبحت منذئذ “أمّ المؤمنين”، أمّ كلّ تلميذ حبيب ليسوع. مريم، التي كان يسوع ابنها الوحيد، أصبحت أمّا لأمّة لا عدّ لها، أمّة لا تقتصر حدودها على حدود الكنيسة، بل تتعدّاها لتشمل كلّ مَن أحبّ يسوع إلى أيّ ديانة انتمى.
ليبانون فايلز
الأربعاء 25 آذار 2015