هنيئًا لك “داعش” بذمّيّيك

الأب جورج مسّوح Wednesday July 8, 2015 183

أثارت مقالتي “هل الديانات تصلح لكلّ زمان ومكان” (ليانون فايلز، 8 تمّوز 2015) ردود أفعال تتراوح ما بين الغثّ والسمين. لا أرغب الدخول في ردود على الردود، بل أن أتابع ما بدأته في مقالتي المذكورة، والتي شاء بعضهم تشويهها عبر قراءة مجتزأة وسطحيّة.

أوّلاً: في المنهجيّة:

في مقالة لي عنوانها “شتّان ما بين الديانات والمتديّنين” (ليبانون فايلز، 25 شباط 2015)، كتبت عن ضرورة التمييز ما بين الديانات في نصوصها التأسيسيّة وما بين تصرّفات المؤمنين عبر التاريخ. وقد ورد في المقالة المذكورة، في ما يخصّ المسيحيّة، ما يلي:

“يغفل الجوهريّون، أي الذين ينظرون إلى الديانات نظرة جوهريّة جامدة غير متحوّلة، عن مسألة هامّة، هي أنّ العقائد وحدها هي جوهريّة لا تتغيّر ولا تتبدّل بتغيّر الظروف والسياقات. أمّا علاقة المؤمنين بالدولة والمجتمع وبأصحاب الديانات الأخرى، ونظرتهم إلى الحرب والسلام وسواها من القضايا، فغير جوهريّة، بل تتأثّر بالظروف المحيطة، كأن يكونوا أقلّيّة أو أكثريّة، وسواها من العوامل الأخرى المؤثّرة في نظرتهم إلى أنفسهم وإلى الآخر.

لذلك يستحيل، إذا شئنا أن نكون منصفين، الحكم على أيّ ديانة، سلبيًّا أو إيجابيًّا، من منظور تصرّفات بعض المنتمين إليها. فالمسيحيّة ليست واحدة، فتحت لوائها وببركة بعض رجال الكنيسة شنّ المسيحيّون الحروب وارتكبوا المجازر… إلى أن أقرّت الكنيسة مؤخّرًا أنّ رجالها قد أخطأوا وخطئوا إذ قاموا بأفعال كهذه عبر التاريخ، وقالت إنّ المسيحيّة بريئة من هذه الارتكابات. إذًا، المؤسّسة الناطقة باسم المسيحيّة أخطأت، أمّا المسيحيّة فبريئة.

ثمّة خطأ يقع فيه المتديّنون هو فخّ التماهي ما بين الديانة أو الطائفة في بهاء صورتها التي شاءها المؤسّس أو المؤسّسون من جهة، وواقعها التاريخيّ والراهن من جهة أخرى. فيتمّ إسقاط صورة حسنة للجماعة الدينيّة، بناءً على النصوص التأسيسيّة، هي صورة مغايرة للواقع وبعيدة جدًّا عمّا تقوله الخبرة التاريخيّة. فما خلا بعض القدّيسين لم يرتقِ المسيحيّون، مثلاً، ووفق الخبرة التاريخيّة، إلى مثال السيد المسيح وتعاليمه عن المحبّة والسلام ونبذ العنف. ومن النافل القول إنّه لمن الظلم الحكم على المسيحيّة من خلال ما قام به المسيحيّون عبر تاريخهم الطويل. وهذا الكلام يصحّ أيضًا عن الديانات الأخرى. غير أنّ الاعتراف بانحراف الخبرة التاريخيّة للديانات يساعد، بلا شكّ، في النأي بهذه الديانات من الوقوع ثانية في الأخطاء ذاتها اليوم.

لا يمكن الوصول إلى حلول للمشكلات الناتجة عن الخطاب الدينيّ المعاصر عبر تحسين الصورة الذاتيّة، بل عبر العمل على خطاب جديد يقوم على نقد الخبرات الدينيّة القديمة، والعمل في الآن عينه على الوعي الدينيّ الانفتاحيّ والقابل الآخر المختلف كما هو. فالقضاء على الفتنة الطائفيّة أو المذهبيّة التي تذرّ قرونها في مختلف بلدان العالم العربيّ يتحقّق عبر مواجهة الجهل والتخلّف، وعبر منع استغلال العامل الدينيّ والطائفيّ في الصراعات الداخليّة، من دون إغفال دور الدولة في طمأنة الناس بأنّهم يحيون في ظلّ دولة عادلة تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات لدى المواطنين كافّة”.

ثانيًا: المسيحيّة ديانة أم طريقة حياة؟

أشرنا أعلاه إلى ضرورة التمييز ما بين المسيحيّة كما شاءها ربّها، وبين أتباعها الذين حوّلوها إلى ديانة-مؤسّسة. لذلك نحن نتوق إلى هذه المسيحيّة-طريقة الحياة وممارستها في عالمنا الراهن، وهذه دعوة مفتوحة لكلّ المؤمنين.

لقد كنت واضحًا حين كتبت منذ يومين عن موضوع الدولة، الإسلاميّة تحديدًا، وقارنته مع الخبرة المسيحيّة في الخلط ما بين الانتماء الكنسيّ والدولة الذي أدّى إلى تشويه صورة المسيحيّة. لكن يبدو أن بعض الأرثوذكسيّين يحلو لهم الدفاع عن دولة داعش، ذلك لأنّ التطرفّ الإسلاميّ مغرٍ لمـَن ما زال يؤمن بقيام دولة مسيحيّة، أو استعادة أيّام الإمبراطوريّة المسيحيّة.

ثمّ أضفت أنّ العلمانيّة الأوروبيّة قد أدّت خدمة للمسيحيّة حين فصلت ما بين الدين والدولة. ولكي أوضح رأيي هذا، سوف أعطي بعض الأمثلة العمليّة عن تجاوزات تدفعنا إلى التأكيد بأنّ بعض المسيحيّين قد جعلوا مسيحيّتهم لا تمتّ بصلة إلى المسيح الكلمة والحياة:

أ- هل المسيحيّة طريقة الحياة تفترض أن يقوم المسيحيّون بارتكاب المجازر كما جرى مع الإمبراطور المسيحيّ ثيوذوسيوس الكبير حين ارتكب مجزرة أودت بحياة ستّة آلاف نسمة، فلم يجد سوى رجل واحد اسمه القدّيس أمبروسيوس يقف في وجهه ويمنعه من دخول الكنيسة أمام صمت الأساقفة الباقين؟ هل المسيحيّة طريقة الحياة تعني أن يرتكب البيزنطيّون مجزرة بالبلغار (والطرفان أرثوذكسيّان)؟ هل العلمانيون هم الذين اضطهدوا بعض القدّيسين أم مسيحيّون، نذكر هنا يوحنّا الذهبيّ الفم ومكسيمس المعترف ويوحنّا الدمشقيّ وسواهم الكثيرين؟

ب- الزواج المدنيّ: حين نقول إنّ العلمانيّة أنقذت رجال الكنيسة من النفاق حين شرّعت الزواج المدنيّ لمن لا يشاء الزواج الكنسيّ، مع الإبقاء على حرّية الزواج الكنسي لمن يشاؤه خيارًا شخصيًّا. ألا يمارس رجال الكنيسة النفاق أحيانًا حين يعقدون زواجًا هم يعرفون معرفة اليقين أنّ المتزوجين لا يؤمنان لا بالمسيح ولا بالكنيسة، بل هما مرغمان على إجراء العقد الكنسيّ لأنّ لا خيار سواه. هل المسيح كان ليرضى بالنفاق القائم حاليًّا؟ أهذا هو الزواج في المسيح؟ وكي أكون واضحًا أكثر، خياري الشخصيّ، وقد أتممته، هو الزواج الكنسي، لكنّ لاهوتنا الكنسيّ يتحدّث عن حرّيّة الناس بالإيمان أو عدم الإيمان، لا إلزامهم بما لا يرغبون به… ثمّ هل كان المسيح ليضع لائحة أسعار بالخدم الكنسيّة، وبخاصة الزواج؟متى أصبح المال هاجسًا كنسيًّا على حساب الرعاية والبشارة؟ ثمّ هل المحاكم الروحيّة وما يحيط بها من فساد، هنا وثمّة، تجسّد حقًّا روح الكنيسة وروح المسيحيّة الحياة أم روح المؤسّسة؟

ج- الأخلاق: يفاخر بعضهم بأنّنا نحن أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة أكثر أخلاقيّة من سوانا، فيما نحن كسوانا بحاجة إلى رحمة الله. من الطبيعيّ أن ترفض الكنيسة، وعن حقّ، زواج المثليّين، مثلاً، غير أنّنا نصمت عن تجاوزات بعضهم في هذه المسألة، ومنهم الإكليروس والعلمانيّين. كذلك الأمر بالنسبة إلى التحرّش بالأطفال، فيما العلمانيّة الفرنسيّة ضبطت أسقفًا أرثوذكسيًّا منذ حوالى العشرين عامًا وأدانته بهذه التهمة الشنيعة، نتغاضى نحن عن المواجهة الحقيقيّة مع هذا القضية منعًا للفضيحة… نصمت عن الجريمة لمصالح عليا.

نكتفي بهذا القدر.

وأخيرًا، كنتُ أنتظر، حين انتقدت النظرة الإسلاميّة إلى موضوع الدولة الدينيّة، ان يهاجمني المسلمون، لكن يبدو أنّ المتضرّرين من انتقادي هذا لدى المسيحيّين الأرثوذكس هم مَن استنفروا، عجبي. هنيئًا لك يا داعش بمحامي الدفاع عنك. أمّا نحن فلسنا نحلم لا بالخلافة الإسلاميّة ولا بعودة الإمبراطوريّة المسيحيّة.

الأب جورج مسّوح

موقع ليبانون فايلز،رد على مقالة 8 تموز 2015

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share