صوم العينين – المطران سابا (اسبر)
غزت الصورة عالمنا الحالي، ودُعي، بحقّ، عالمٌ صُوَري. فقد باتت الصورة تحتل الحيّز الأوسع في كل المجالات. ولّى زمن الكلمة البحت، ليحلّ زمن آخر، الصورة فيه ضرورة ملازمة للكلمة حتى تصل الرسالة، أيّ رسالة.
تغزو الصورة العقل البشري في هذه الأيام، ما يعرّضه لتخزين كمّ هائل منها، فتُتخم بها الذاكرة، ويكدّسها الوعي، ويُرهق بها الذهن. كمّ الصور المتلاحقة لا يبقى دون تأثير، بل يطال الوعي واللاوعي. وهذا يُثقل المخيّلة ويجعلها شغّالة طوال الوقت، ما يغذي الأفكار الرديئة، التي تشكّل المدخل إلى فعل الخطيئة.
خطر الصورة في هذا الزمن يأتي من الإدمان على استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، التي تتطلّب إشغال العينين بها، إلى جانب بعض أعضاء الجسم الأخرى. وقد صارت كل معلومة مرفقة بصورة أو أكثر، ناهيك عن تناقل الأخبار الغريبة والممجوجة، كونها، بحكم الفضول البشري وحبّ الإطلاع، تحقّق نسبة قرّاء مرتفعة. تُنقل المعلومة صورةً وصوتاً وشرحاً، ولها، عموماً، خلفية موسيقية مدروسة، ما يجعل المتلقي مستقبِلاً جاهزاً لتخزين ما يراه ويسمعه ويقرأه.
هذا التخزين، إضافة إلى المعلومات المتدفقة والسريعة، يجعلان الرسائل المراد إيصالها تستقر في دماغ الإنسان وتبدأ تأثيرها بطريقة مباشرة أو لا إرادية.
وما يزيد الأمر سوءاً، أنّك قلّما تسمع من الناس أخباراً مفرحة وإيجابية تساهم في نشر روح التفاؤل ورفع المعنويات. غالباً ما تكون المعلومات المتداولة شخصيّة، غير ذات أهمية إن لم نقل سخيفة، أو غير بنّاءة، كتناقل أخبار المشاهير أو الشاذين أو المجرمين ومن في صفهم. معلومات يغلب عليها الطابع الإخباري الذي يزول سريعاً.
الصورة مادّة جيّدة للمخيّلة، التي تُخرج منها ما يغذّي الهوى، ويدفعه إلى الوجود الفعلي. إلحاح الأفكار الناجمة عن تحريك الأحاسيس، التي أيقظتها الصورة، يقود الإنسان إلى السقوط في الخطيئة.
يميّز تعليمنا الروحي بخصوص الأفكار الرديئة عدّة مستويات. يتمثل الأول بهجوم الفكر علينا، كأن يراودنا فكر رديء ما لكي نقوم بفعل شرّير. هذا نسمّيه هجوم من الخارج، ولا نعتبر أنفسنا مسؤولين عنه إلا إذا كنّا قد تصرفنا بقصد استجلاب هذه الأفكار إلى ذهننا. والثاني مداعبة الفكر أو القبول بمحاورته، وهو بدء الطريق إلى فعل الخطيئة. أمّا الثالث فهو تبنّي الفكر وارتكاب الفعل تالياً.
غزو الصور وكثرتها، إلى جانب عوامل أخرى، يحرّض المخيلة، على استجلاب الفكر الرديء، والغوص في تفاصيله انطلاقاً ممّا تكدّس في الذهن.
عيشنا في هذا الزمن الاستهلاكي للمعلومة يحمّلنا، كبشر، أعباء جديدة، ويُخضعنا لاستعبادٍ من نوع آخر. فبعد أن صار الإنسان مُتحيراً أمام تكديس منتجات المعامل ومعروضات السوق، صار مُثقلاً ببضاعة من نوع آخر، أقسى عليه من الأولى، لأنّها تستعبد ذهنه وتغيّر قناعته، وتترسّخ في عمق أعماقه، غصباً عنه وفي عقله الباطن، ما يجعل الوقوع في التجارب أمراً حاضراً باستمرار وسهلاً.
تجربة الاستهلاك المادّي سهلة جداً مقارنة بالاستهلاك المعلوماتي. يكفي الأولى أنّها خارج الإنسان. عندما تعي خطرها ترميها إلى القمامة، تنظف بيتك منها، وتقيّد نفسك بالابتعاد عنها، يساعدك في ذلك جيبك الفارغ أو غير القادر على شرائها. أمّا المعلومة، وخاصّة المصوّرة، فتحتاج إلى حرب روحية وجسدية وفكرية حقيقية حتّى لا تسيطر عليك. كما لا بدّ لك من نعمة الله والزمن حتّى تتحرّر ذاكرتك منها.
لم نذكر هدر الوقت في الركض وراء المعلومات المتدفقة اليوم. وجلّها يُصرف في خسران الوقت في الثرثرة. بات الناس يقضون معظم أوقاتهم على أجهزة الهاتف الذكية وما شابهها، في تفاهات هائلة تبعدهم عن التواصل الحميم مع أقرب المقرّبين. صار مألوفاً أن تجد مجموعة تلتقي في مقهى أو بيت، وكل منها مشغول بهاتفه الخلوي بينما يرتشف القهوة.
الغريب أنّ الناس يشكون من عدم توفر الوقت لديهم للقيام بما هو مفيد لهم أكثر أو يشكّل سبيلاً لتخليصهم من هذا الإدمان. كما يشكون من الضجر، بالرغم من وفرة المعلومات التي تشغلهم. ذلك لأنّها تبقى على هامش حياتهم وتشتّتهم في أشياء وأشياء، فيبقون كمن يفترش البحر لأنّه عاجز عن الغوص فيه بحثاً عن اللاليء المختبئة في أعماقه. يعودون إلى الفراغ الروحي الذي يتآكلهم.
لماذا هذا الكلام؟ لأنّ الحال بات ينذر بأخطار شتّى: معرفية ونفسية واجتماعية وروحية. بحيث بات لزاماً على المؤمنين والواعين أن يتنبهوا إليها، وأن يجدّوا في إيجاد سبل تحرّر البشر من سطوتها، ومساعدهم على الحدّ من سيء تأثيراتها.
لم يعد صومنا كمؤمنين عن الطعام كافياً، بل بات الصوم أوسع اليوم ويجب أن يشمل أموراً أخرى كثيرة. قبل هذا الزمن كان صوم العينين عن الرديء غير مطروح بحدّة، لأنّ الصورة لم تكن مألوفة كما هي اليوم، كما أنّ الرديء، على العكس مما يحدث اليوم، كان يُظهر رداءته مباشرة.
بتنا بحاجة إلى ضرورة البدء بتدريبات نسكية بخصوص استعمال هذه الوسائل المعلوماتية. كأن نخصّص لها توقيتاً محدّداً، وفترة زمنية محدّدة. ونمنتع عن استعمالها في أوقات وأيام محدّدة: عشية اليوم السابق لاشتراكنا في المناولة المقدسة، أو بعض أيام من الصوم، أوعشياته على الأقل، بحيث نستبدلها بالصلاة أو القراءة المفيدة أو أعمال المحبّة.
كونك إنساناً مخلوقاً على صورة الله يحتّم عليك العيش في حرية داخلية تجعلك سيّداً لا مسوداً.