ويسألونك لماذا العهد القديم؟ – المطران سابا (اسبر)

mjoa Wednesday September 9, 2015 119

ويسألونك لماذا العهد القديم؟ – المطران سابا (اسبر)
يبدو أنّ العهد القديم يشكّل معضلة لكثيرين. أسئلة المؤمنين وغير المؤمنين بما يختصّ به كثيرة. جلّها يدلّ على معرفةٍ به سطحية، عبر بعضٍ من أحداث وردت فيه واتّخذت صفةً عالمية. من الجليّ أيضاً أنّ الاهتمام به، سلباً أم إيجاباً، متأثر، بالأخصّ، بمنحى سياسي وجودي نتيجة قيام دولة استند كثيرون في تبرير نشوئها إلى نصوص في العهد القديم. يقوم الوحي الإلهي في المسيحية على مبادرةٍ من الله، مفادها كشفه عن ذاته.

3ahed-adimلقد كشف الله ذاته للبشر بشكل كامل في يسوع المسيح “من رآني رأى الآب” “ما من أحد يأتي إلى الآب إلا بي” “أنا والآب واحد”. لكن هذا الكشف الإلهي اقتضى تهيئة بشر قادرين على اقتباله. هذا صبَرَ الله عليه قروناً حتّى هيّأ بقيةً أمينة له، وقادرة، بالسمو الروحي التي اقتنته، على التجاوب مع حقيقته تعالى. تحقق السمو الروحي هذا عبر تربية إلهية تدريجية وتنموية مباشرة، ابتداءً بإبراهيم وصولاً إلى يوحنا المعمدان.

اقتضى تدبير الله الخلاصي أن يأخذ المبادرة بنفسه. فبدأ يتقرّب من الإنسان تدريجياً كاشفاً له، في كلّ محاولة، شيئاً جديداً عن ذاته. بعد سقوط الإنسان الأوّل من الفردوس، أضاع الطريق إليه، وما عاد قادراً على سلوكها. لكن صورة الله التي فيه، وإن تشوّهت بالسقوط، إلا أنّها بقيت تطلب أصلها ومثالها. ظنّ الإنسان أنّ إلهه في القوى التي تخيفه، أو تؤمِّن حياته، فعبد الشمس والريح والمطر…إلخ. تعزو المسيحية نشوء الأديان الوثنية، إلى حنين الإنسان إلى أصله، الذي بات لا يعرفه. عندما يعطش الطفل يضع في فمه ما تيسّر له ممّا يظنّه يرويه، ماءً كان أم كازاً! هو لا يميّز! يعرف خطأ فعلته عندما يذوق، خطأً، ما قد ظنّه ماءً. هذا ما حدث مع الإنسان.

ولذلك ما وُجد شعبٌ قبل المسيح لم يكن له دين. يمكننا تشبيه الحال بين الله والبشر، بعد سقوط الجدين الأولين، بشخصين بعيدين عن بعضهما، تفصل، بينهما، مجموعة كبيرة من الستائر الحريرية الشفافة. ارتأى الله أن ينزعها ستارةً ستارةً، حفاظاً على عينيّ محبوبه، الإنسان، من سطوع نوره. وهكذا بدأ بابراهيم، ومن ثمّ تتالت العملية حتّى يوحنا المعمدان. آنذاك “حلّ ملء الزمان فأرسل الله ابنه مولوداً من امرأة”(غلاطية). فوُلد يسوع المسيح “والكلمة صار بيننا”(يوحنا). هذا ما ندعوه تدبير الله الخلاصي في العهد القديم. قسوة الإنسان روحياً اضطرت الله إلى تربيته من جديد، لكي يبلغ إلى مستوىً يستطيع فيه تقبّل الله على حقيقته.

أتراه عبثاً اختار، من جهة أولى، مجموعة متخلّفة؟ بالتأكيد لا. لأنّه لو كشف ذاته لشعب متحضّر لاعتبره البشر نتاج فكر بشري؛ ومن جهة ثانية، أتراه صدفة أتى في قلب عالم متحضّر، كان قد رعاه بالفلسفة، التي وصلت إلى الإقرار بإله واحد؟ يجمع المؤرخون على أن الإمبراطورية الرومانية بلغت مستوى روحياً، بات فيه الإله الحقيقي غير المعروف، بنظر الكثيرين آنذاك، يختبيء وراء أصنام الآلهة المخلوقة بأيدي البشر وفكرهم. ولذلك بلغت نسبة الأديان السرّية حدّها الأعلى قبل زمن تجسد المسيح وخلاله! جاء المسيح في الزمن الأفضل من حيث نضج البشرية روحياً وتلهّفها إلى الإله الحقّ. هذا هو المقصود بملء الزمان. ماذا فعل الله عملياً؟ اختار فئةً متخلّفةً بعيدةً عن الحضارة، ليكشف ذاته، عبرها، لكلّ البشر. “اختاركم له من بين جميع الشعوب التي على وجه الأرض لا لأنّكم أكثر من جميع الشعوب فأنتم أقلّها”(تث 7/7).

وفي بعض الترجمات “لعلّكم أحقرها”. لماذا؟ ليكون فضل القوّة لا للبشر بل لله. يعتقد البعض أنّ الله صنيعة البشر. بينما العكس هو الصحيح في وَحينا الإلهي. البشر صنيعة الله وهو من عرّفهم بنفسه وقادهم إلى صورته الحقّ. أتراهم عرفوه جميعاً؟ لا. وهل يرى جمال دقائق الطبيعة من لا يملك بصراً جيداً؟ البصر المطلوب، في ما يخصّ الله، هو الروحي. أنت تعرف الله بقدر ما تكون نقيّاً ومتواضعاً ومحبّاً. يستعذب الله السكنى في القلوب الطاهرة، وتلك بإمكانها تذوّق حلاوته، وتالياً استعذابه. كشف عن ذاته أولاً من خلال أفعاله مع الجماعة الأولى. “إله آبائنا”، “الإله الذي نجّانا من العبودية”، “الذي غرّق فرعون ومركباته”، “الإله الذي أطعمنا منّاً في البريّة”؛ “الذي فجّر ماءً من الصخرة”؛ “الذي شفانا من لدغة الأفاعي”…إلخ.

ثم بدأ، بواسطة الشريعة، يسمو بهم من شريعة الانتقام المتوحش: “لقايين يُنتقم سبعة أضعاف وأمّا للامك فسبعة وسبعين”(تك4/24)، إلى شريعة العدل: “العين بالعين والسن بالسن”، إلى شريعة الرحمة: “تعلّموا الإحسان واطلبوا العدل. أغيثوا المظلوم وأنصفوا اليتيم وحاموا عن الأرملة”(أش1/17). نقلهم من شريعة مكتوبة على الحجر إلى شريعة منقوشة في القلوب. درّجهم من ختانة الجسد إلى ختانة القلب. محّصهم بالغربة والنفي ففهموا أنّه غير مرتبط بهيكل محدّد وأرض محددة. وعرفوا، بعد السبي،

أنّ الله إله جميع الأمم وله “الأرض وملؤها”. كانت رحلة طويلة صبورة أظهر، حقّاً، “طول أناته”. وكان أن أثمر وحيه العملي هذا، “البقية الأمينة، أي من نضجوا روحياً لاقتبال وحيه الكامل، الذي انكشف في تجسّد كلمته، يسوع المسيح. من هؤلاء مريم العذراء ويوحنا المعمدان وسمعان الشيخ وحنة النبية ويوحنا الإنجيلي وكثر غيرهم. يسوع المسيح محور الكتاب المقدّس. في العهد القديم انتظار له يتكشّف تدريجياً، وفي العهد الجديد اكتمال هذا الانتظار بظهوره الكامل “الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا،… ولمسته أيدينا”(1يو1/1).

إن حذفناه من كتابنا المقدّس، نكون قد استغنينا عن آثار يسوع المسيح المتكشّفة عبر تدبيره الخلاصي الطويل السنين، وأعطيناه لغيرنا. أو هل تفترض أمانة الحبّ رمي آثار المحبوب؟ لا يُواجه التحدّي برمي التراث للغير بل بالاحتفاظ به، وإظهار معانيه الحقيقية؟ لا يحقّ لك أن تفسّر ما لا تعترف به أصلاً.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share