صرخةُ وجعٍ – المطران سابا (اسبر)
الكنيسة،أساساً، لفظة مشتقة من اليونانيّة، وتفيد كما الأصل العبري، شعبَ الله. في شعب الله هذا مواهب متنوعة، وخدمات مختلفة،يجب أن تتعاون وتتكامل، بغية خدمة الجسد الواحد (1كو12). تجد في شعب الله أساقفة وكهنة ورهباناً وراهبات، ومتزوجين ومتبتلين؛صغاراً وكباراً، نساء ورجالاً، جميعهم يحمل سمة الكهنوت الملوكي، التي ختمته في معموديته، وتطالبه بأن يكون مكرَّساً لله. هؤلاء جميعاً مشمولون بكلمة “الكنيسة” في هذا المقال.
لا شكّ في أنّ التحدّي، الذي يواجهه مسيحيّو المشرق، حاليّاً، تحدٍّ وجودي ومفصلي وحاسم. إلا أنّ تقاعسهم عن مساندة بعضهم، كما يجب، غير مبرَّر،أيَّاً تكن الحجج المقدَّمة.
صحيح أنّ ماضيهم عرف أزمنة ضيق شديدة، ومذابح رهيبة، ولكن تغييراً هائلاً أحدثته العولمة الحالية في أوضاع الحياة، وتركيبة الإنسان الداخلية والخارجية، انعكس عليهم سلباً.
فعلى سبيل المثال، لا الحصر، نجد أنّ قدرة الناس، على احتمال الشدائد، باتت أضعف من قبل بكثير، بسبب نمط الحياة المدنيّة المعاصرة، وما فيها من اعتياد على السهولة، التي خلقتها التكنولوجيا الحديثة. كما أنّ اختيار مسيحيّي المشرق، عموماً، تفضيل نوعيّة العيش على كميّته، أنتج، وما يزال، أُسَراً صغيرة، وتالياً، تناقصاً عدديّاً،إلى جانب درجة عالية من التعلّم، والانخراط في أسلوب العيش المديني. هذا كلّه جعلهم يسعون إلى رفاهيّة، تقترن، عادةً، برخاوة في العيش، تتسّم بها المجتمعات المتحضّرة.
وإذا ما أضفنا ظاهرة تراجع الحياة الروحيّة، وعيش التقشف، والاكتفاء بمظاهر التديّن الاجتماعيّة، فإنّنا نستطيع، إلى حدّ ما، فهم تعبهم ممّا يجري، وضعف قدرتهم على تحمّل الشدائد، وتراجع صلابتهم الروحيّة. ما جعل مشاريع السفر والهجرة، في زمن القرية الإلكترونيّة، الذي نعيشه، على صعوبتها، أسهل بكثير مما كانت عليه في الماضي.
هذه بعض من الأسباب التي تؤكد خطورة التحدّي ومأساويّته.ولا أذكرها إلا لأبيّن أهميّة المواجهة المطلوبة من كلّ مؤمن، أيّاً يكن وضعه، وظرفه، وموقعه ضمن شعب الله.
استنتاجاً مما سبق، نسأل: ما المطلوب من شعب الله، وما هي حاجته الأولى، في هذا الوقت بالذات؟ كيف نزيل الغبار، الذي راكمته خطايانا ولا مبالاتنا على وجه كنيستنا، ليظهر وجه سيّدها، على حقيقته، مخلّصاً وحاضناً وحانياً؟ ما الذي علينا، نحن المؤمنين، القيام به، في هذه الأيّام المفصلية؟ ألم يحن الوقت لنطرح جانباً التشكّي والانتقاد، وتحميل المسؤوليّة لهذا وذاك، ونبدأ من أنفسنا؟ ما هو دور شعب الله، كنيسة يسوع المسيح، إكليروساً وعوامَ، نساء ورجالاً، جمعيات وأفراداً، مغتربين ومتوطنين؟
نظرة سريعة إلى السنوات الخمس الماضية تظهر أننا لسنا في المستوى المطلوب منّا إنجيليّاً. فما زلنا نتعاطى المأساة المستمرة بفكر وأسلوب، أقلّ ما يُقال فيهما،إنّهما تقليديّان. وما زال الاهتمام الفردي الشخصي يطغى على الجماعي الشركوي. وما زالت الغالبيّة العظمى تطالب غيرها بالتحرّك والمبادرة، وكأنّها هي معفاة، ويحقّ لها التنعّم بالمكاسب، التي يتوجّب على غيرها تأمينها. والكلّ يلقي اللوم على الكلّ، معفياً نفسه من أيّ دور أو مساهمة.
أما آن لنا،
أن نجعل الكنيسة جماعة واحدة تعمل لمجد الله وخلاص الإنسان،
وأن نعمل على التخفيف من هيكليّاتها الإدارية، قدر الإمكان، من أجل إفساح المجال للروح القدس، كي يعمل فيها بحريّة،ويلهمنا خلق أساليب جديدة تتطلبها الخدمة اليوم،
وأن نعتمد البساطة الإنجيلية نمطاً أوحدَ لحياتنا، مستعيدين عيش الزهد، ونابذين المجتمع الاستهلاكي، ومكتفين بفرح المسيح الحاضر في ما بيننا،
وأن نقبل مواهب جميع المؤمنين، بفرح، متطلّعين إلى العمل سويّاً بروح التكامل، لا التناحر، فنشيد بناء الله كما يليق بتعليم إنجيله،
وأن نعي أنّنا، نحن الذين اعتمدنا بالمسيح ولبسناه، ننتمي بالقوّة ذاتها، وبالروح ذاته، إلى الكنيسة ذاتها. وأنّ الاختلاف فيما بيننا، إنّما هو بالمواهب الممنوحة لكلّ منا، وبالجهد الصادق الذي يقدّمه كلّ منا، وبالتواضع، الذي يُفسح المجال أمام الشهادة المسيحيّة، كي تعبّر عن ذاتهادون هوىً،
وأن نغذّي روح العمل المشترك، وروح الصلاة والتأمّل والصلوات الجماعيّة، من أجل صفاء في الرؤية، يدفع نحو استراتيجيّة تميّز الأولويّات وتضعها موضع التنفيذ، وتأمر بتوجيه كلّ الطاقات المتوفرة إليها،
وأن نتبنّى الإنسان المعذّب والمقهور، في ديارنا المشرقيّة، تبنيّاً ملموساً لا كلاميّاً. ألا ترون كم ملّ الناس الكلام والشعر، وكم هم بحاجة ماسّة إلى فعل حيّ ومحسوس؟!
وأن نخلق وننمّي كلّ ما من شأنه أن يقوّي ثقافة المشاركة والتشارك مع إنسان بلادنا، الذي يموت يأساً وخوفاً وهروباً،
وأن نحطّم الكثير من القيود، التي كبّلنا أنفسنا وكنيستنا بها، ومنعنا، بسببها، الله، من العمل في أوساطنا،
وأن نكثّف العمل على تجذير إيماننا التجسّدي في العالم، الذي أتى المسيح من أجل خلاصه،
وأن لا ننعزل وننكفئ في أوهام طقوسنا الجميلة، معتقدين أنّنا نعيش الملكوت فيها، فيما المسيح يموت برداً خارجها، متناسين، عن غير وعي، أنّها تدعونا إلى جعل العالم كلّه إفخارستيّا مستمرة!!
كم نحتاج إلى أن نضع نصب أعيننا كلمة القدّيس يوحنا الذهبي الفم، بأنّ القدّاس الإلهي يبدأ عندما نخرج من الكنيسة. أنت تغادر القدّاس الإلهي،محمّلاً بالزاد الروحي،لتنطلق إلى الخدمة التي كلّفك الإنجيل بها. تنطلق من”سرّ القدّاس إلى سرّ الأخ”.
كم نحتاج، في هذا الزمن العصيب، إلى إعطاءالأولويّة لهمّ بناء هياكل الله الحيّة، ومنحها الأفضليّة على أيّ هيكل حجري، مهما كان عظيماً وقيّماً.
الوقت وقت صورة الله في وجه “إخوته الصغار”، لا في الرسوم الجدارية!!
الوقت وقت بناء مقتضيات المحبّة الفاعلة، المحتضنة للآخر، بشكل غامر، وليس بناء مؤسسات تقليديّة، عفا عليهاالزمن!!
فلنركّز جهودنا على إنارة وجوه أبناء الله، بدفء محبّته المتجسّدة فينا، لا بالثريّات والمصابيح،
فلنتواصل مع معارفنا، ونجنّد صداقاتنا، ونحرّك مغتربينا، من أجل نجدة الذين يموتون جوعاً، ونقصاً في الاستشفاء، والذين يتركون جامعاتهم، لأنّهم لم يعودوا قادرين على تأمين مصاريف التعليم.
فلننسج، بتعاوننا، شبكة من المعارف، ونستنهض المحبّة النائمة هنا وهناك، لكي تعبّر عن ذاتها، في تجميع كلّ ما من شأنه أن يؤول إلى خدمة الإنسان الباقي في أرضه، وكذلك الذي تهجّر منها.
لنعلّم بعضنا بعضاً كيف نأكل “خبز الألم ونشرب خمر العيد” (أوليفييه كليمان)، مع بؤساء الأرض المتناثرين من حولنا، ونحن منهم بالتأكيد.
فلنجعل الكنيسة ورشة عمل، لا تهدأ الخدمة فيها، لا نهاراً ولا ليلاً. “لأنّ ابن الإنسان يجيء في ساعة لا تنتظرونها” (مت24/44).
08 شباط 2016