“سبوتلايت” : ذئاب خاطفة وحملان وديعة

الأب جورج مسّوح Sunday March 13, 2016 154

لن يتسنّى للمواطن اللبنانيّ، إلى يومنا الراهن، أنّ يشاهد فيلم “سبوتلايت” (بقعة ضوء)، الحائز على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم، على الشاشات الفضّيّة. لكنّه لن يعدم وسيلة، كما فعل كاتب هذه السطور، كي يشاهد، بطريقة ملتوية، هذا الفيلم المبني على وقائع ووثائق حقيقيّة. فلا ريب في أنّ المؤسّسة التي تقف وراء منع عرض الفيلم في لبنان هي مؤسّسة تحكمها ذهنيّة القرون الوسطى القمعيّة. كما أنّنا نرفض أن تضع بعض المؤسّسات والتيّارات الدينيّة أيديها على المجتمع، فتحدّد ما يجوز لهذا المجتمع ممارسته أو مشاهدته أو قراءته، وما لا يجوز، وتنصّب نفسها وصيّةً عليه وعلى قيمه.

يعرض الفيلم لقضيّة الانتهاكات الجنسيّة التي ارتكبها بعض الكهنة الكاثوليك بالقاصرين عبر التحقيقات التي قام بها فريق من صحيفة “بوسطن غلوب”، حيث تمّ حتّى نهاية عام 2002 نشر 600 قصّة عن الاعتداءات الجنسيّة على قاصرين، واتّهام 249 كاهنًا وأخًا بارتكابها في أبرشيّة بوسطن وحدها.

اللافت في الفيلم أنّ القاصرين المعتدى عليهم معظمهم كانوا من طبقات فقيرة ترى في رجال الكنيسة صورة عن المسيح نفسه، وتثق بهم وباهتمامهم باحتياجاتهم، فيسلّمون أنفسهم بالكلّيّة لهم غير مصدّقين أنّ هؤلاء سيؤذونهم كما تؤذي الذئاب الحملان الوديعة. يضاف إلى ذلك صمت الأهل والشعور بالذنب لدى الأطفال إلى أن يبلغوا سنّ الشباب أو الرجولة فيثورون، ليس كلّهم، كاشفين عن الجرائم التي حصلت بحقّ أجسادهم البريئة.

الجدير بالذكر أنّ البابا السابق بينيديكتوس السادس عشر قد اعتذر علنًا، عام 2008، عن الانتهاكات الجنسيّة التي ارتكبها بعض الكهنة الكاثوليك بالقاصرين، وعبّر عن شعوره بالعار إزاء هذه التجاوزات، ودعا إلى مثول المسؤولين عنها أمام العدالة. لا شكّ في أنّ هذا الاعتراف البابويّ خطوة شجاعة ومثال ينبغي الاحتذاء به لدى رؤساء الكنائس الأخرى ولدى مرجعيّات الأديان غير المسيحيّة، ذلك أنّ الانتهاكات الجنسيّة لا تقتصر على فئة من رجال الدين الكاثوليك وحدهم، بل تطول بعض رجال الدين من الانتماءات الدينيّة والكنسيّة كلّها.

صحيح أنّه ليس أمرًا جديدًا أن يسقط أسقف أو كاهن في الخطيئة. لكنّ العثرة التي يسبّبها هذا السقوط هي أعظم من خطيئة المؤمن العادي. ذلك أنّ الناس يرون في رجال الكهنوت قدوةً لهم في الترقّي الروحيّ والسلوك اليوميّ. وهذا خطأ شنيع، فالمثال واحد وهو المسيح، وليس من مثال سواه. من هنا، ينبغي ألاّ يصاب المرء بالصدمة جرّاء انكشاف خطيئة أحد الحاملين سرّ الكهنوت، فالكاهن كائن بشريّ كسائر البشر قابل ارتكاب الخطايا طالما هو يحيا في الجسد، وبخاصّة حين يستغلّ بشكل منحرف سلطته الروحيّة والأدبيّة على مريديه الذين سلمّوه أمرهم لكونه بالنسبة إليهم يمثّل المسيح على الأرض. وحين يقترف كاهن ما الخطيئة فالغالب أن تكون تجاه مَن هم تحت سلطته المباشرة.

الكنيسة منذ نشأتها سنّت قوانين وتشريعات لتضبط انحرافات المؤمنين وعلى رأسهم رجال الكهنوت، ذلك أنّها أدركت الاغراءات التي يمكن أن تكون لهم سببًا لسقطات مريعة. وليس للكنيسة توهّمات أو رؤى غير واقعيّة في هذا الصدد. فالقوانين تقرّ صراحة ضرورة عزل رجل الدين إلى أيّ رتبة انتمى عن وظيفته لأمور عديدة أكثرها ممّا يمتّ بصلة إلى سلوكه في حياته الجنسيّة إن كان متزوّجًا، أو إلى عدم التزامه بالانقطاع عن الممارسة الجنسيّة إن كان عازبًا. وقد كانت الكنيسة حازمة في تطبيقها روح هذه القوانين على مرّ التاريخ إلى أن تراخت بعض الشيء في عصرنا الراهن.

لا يكفي أن يعتذر قادة الكنائس عن اعتداءات الأساقفة والكهنة على ضحاياهم من القاصرين أو من البالغين، فثمّة ضحايا ما زالت تعاني من هذه الاعتداءات التي تركت فيهم جروحًا بليغة في أرواحهم من الصعب أن تندمل سريعًا. ينبغي أن تكون الكنائس أكثر صرامةً حين اختيار المسؤولين عن الرعاية. فلا يمكن تسليم النعاج إلى رعاية ذئاب خاطفة لا ترغب إلاّ بتشهّيها ونهشها. ما ينفع أكثر من الاعتذار هو خطوات عمليّة تمنع الاضطرار إليه.

إذا كان لدى بعضهم خشية على الكنيسة من عرض فيلم عن الانتهاكات الجنسيّة للكهنة بالقاصرين، تكون المشكلة في مؤسّسات الكنيسة لا في الفيلم. أمّا تعزيز ثقة المؤمنين بالقادة الكنسيّين فلا تمرّ عبر إغفال المشاكل وكتمانها، بل عبر المكاشفة والشفافية والمحاسبة. كما أنّ من واجب الكنيسة أن تطالب بعرض الفيلم الوثائقيّ إلى حدّ كبير، لأنّه سيسهم في توعية الأهل على ضرورة الانتباه لعدم وقوع أطفالهم في براثن هؤلاء الوحوش. التحدّيات كثيرة، لكنّ سياسة الحظر والمنع لا تليق بالمؤتمنين على الكنيسة.

تبقى في الختام كلمة حقّ تقال عن أساقفة وكهنة قدّيسين ما زالوا يشهدون للمسيح من خلال عيشهم في عالمنا اليوم بحسب الأخلاقيّة المسيحيّة. ولولا هؤلاء لما تحدّثنا عن عمل الروح القدس الذي يقود الكنيسة إلى أن يبطل هذا الدهر وشياطينه.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،13 آذار 2016

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share