خواطر بريطانيّة 2 – المطران سابا (اسبر)

mjoa Thursday March 17, 2016 121

خواطر بريطانيّة 2 – المطران سابا (اسبر)

أجاب شابّ، في منتصف العشرينيّات، عن سؤالي له: ما الذي جذبك إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة؟ فقال: وجدت الروحانيّة فيها. فقد نشأتُ ونَمَوْتُ في مناخٍ مسيحيّ، منظَّم ومُعَقلَن جدّاً، وفي بيئة مدنيّة مؤسَّسةٍ على القانون والمتطلّبات المادّية. لم تجد نفسي الملء الذي تتوق إليه. لم أكن أعرف ماهيّته في بداية بحثي عنه، لكنّني عرفته في ما بعد، في الحياة الروحيّة، بحسب التقليد الأرثوذكسيّ؛ فأعطيته ذاتي بكليّتها.

khawaterالملفت لأمثالي، أي المولودين أرثوذكس، أنّ غالبيّة مؤمني الرعايا الأنطاكيّة، المُقبلين إلى الأرثوذكسيّة، إمّا من كنائس مسيحيّة، أو من إلحاد أو لا أدريّة، إنّما اهتدوا، لا بفعلٍ تبشيريّ، بل بفعلِ اكتشافٍ شخصيّ. لعب الروح القدس، من خلال بعض المؤمنين، الدورَ في تهيئة هذا الاكتشاف. الشهادةُ الشخصيّة هي التبشير الأكثر فعاليّة.
في كنيسة رعيّة القدّيس إيدن Aiden، وهو قدّيس بريطاني من القرن السادس الميلادي، زاوية لبيع الكتب. أدهشني أنّ معظمها ذو طابع لاهوتيّ وروحانيّ رفيع المستوى. سألت المسؤول عنها: هل يشتري المؤمنون هذه الكتب؟ فأجاب بالإيجاب. وزاد في دهشتي مدى فهمه لعمق اللاهوت الأرثوذكسيّ، الناجم عن قراءاته الكثيرة.
خبرتُ جامعيّةَ الكنيسة، في تلك الرعيّة، بشكل محسوس. فهي تضمّ إلى جانب أعضائها الإنكليز، عائلات من أريتريا وجامايكا وقبرص وسوريا وفلسطين. يجتمعون كلّهم حول الكأس المقدّسة، ويصيرون جسد المسيح الواحد، بالرغم من الفروق الظاهرة في ألوان بَشَرتهم. لا يهودي ولا يونانيّ، لا عبد ولا حرّ، لا رجل ولا أمرأة، الجميع واحد في المسيح (غلاطية 3/28).
هذه الروحانيّة الكنز، الذي لا يدركه كثر من المولودين في عائلات أرثوذكسيّة، تجدها حيّة في دير القدّيس يوحنا المعمدان، في منطقة أسكس. أسّس، هذا الدير، الشيخ الروحي صُفروني، الذي ينتظر كثيرون علامةً إلهيّةً، على إعلان قداسته رسميّاً. تتلمذ الأب صُفروني على القدّيس سلوان الآثوسي، في جبل آثوس، من العام 1930 وحتّى رقاده في العام 1939. تشرّب تعليم أبيه الروحي، وعلى الأخصّ، توقه لخلاص كلّ العالم، والتشبّه بتواضع المسيح، ومحبّة الأعداء. فاكتسب منه التأكيد على حضور الروح القدس وفعله، في حياة المؤمن النسكيّة، ما أكسبه رهافة مذهلة في التعاطي مع البشر، وإدراكاً لآلامهم ومعاناتهم، وتالياً موهبة فريدة في رسم طريق خلاصهم، ومساعدتهم على اكتشافها.
في اعتقادي أنّ هذا قد حصل بإرادة إلهيّة، تهيئةً للشهادة المسيحيّة الحقّ، التي يتطلّبها المجتمع الغربي الحالي. فالإنسان المنهَك بالعمل المتواصل، في مجتمع صناعي ومديني طاحن، وفي بيئةٍ فكّكت العائلة، وأحلّت الفردية مكان الشركة، ووضعت أمامه بدائل لم تزل تؤكّد أنّها لا تملأه، مازال يبحث، بيأس، وعلى غير هدى، عن معنى وجوده.
هذا الإنسان يحتاج إلى لمسة حبّ نقيّ، ورؤية فعل حضور الروح القدس المفرِح، في حياته. وهو ما يبدو جليّاً في هذه الشركة الرهبانيّة، التي تتبع هذه الروحانيّة الراقية، التي فجرّها القدّيس سلوان في حياته، وأطلقها الشيخ صُفروني فيها. فالفرح يطفح من الوجوه، وحُسن الاستقبال والضيافة يُشعِر الضيف، وكأنّه في بيته. عندهم رهافة في كيفيّة التعامل مع ضيوفهم، وحسّ روحي رفيع في التعاطي مع المجتمع الغربي الذي يعيشون فيه، إلى جانب قناعة عميقة بأنّ الله، وليس هم، يهدي من يشاء. يعتبرون أنّ دورهم كامن في عيشهم للإنجيل بأمانة متطلِّبة وشديدة.
ثمّة ما يميّز هذه الرهبنة. وقد جاءت هذه الميزات، بشكل طبيعيّ، بسببٍ من ظروف رافقت نشأتها، وليس بقرار شخصيّ من المؤسِّس. هكذا يفعل الله عندما يريد أن يخلق شهادةً فيها شيء من الجدّة، التي يتطلّبها الواقع الثقافي المتبدّل. تظهر الميزة الأولى في قانون صلاتهم المشترك القائم على صلاة يسوع. يصلّونها، ساعتين صباحاً وساعتين مساءً، بلغات متعدّدة، يستعملون فيها لغات ضيوفهم أيضاً. لا يقرعون الجرس للصلاة، لأنّهم لا يجبرون ضيوفهم عليها، بل يتركون المجال لهم ليُقبلوا إليها من ذواتهم. أمّا الميزة الثانية فتظهر في شركة رهبانيّة مختلطة (رهباناً وراهبات)، يشتركون في الصلاة والطعام، ويتكاملون، مفترقين، في ميادين العمل والخدمة التي يتطلّبها الدير.
الدير، بروح الشيخ صُفروني، منارة روحيّة شاهدة على فرح الحياة التي في المسيح، وجواب حيّ على أسئلة عالمنا الضائع. لذا يرتاده الناس بالآلاف سنوياً. سألت أحدهم ما هي الأعمال التي تقوم بها أخويّة الدير؟ فأجابني: الخياطة لأعضاء الشركة الرهبانيّة، ورسم الأيقونات فقط، لأنّ خدمة الضيافة تستهلك وقتهم كلّه. هذا ما يبدو في غرفة الطعام الواسعة، التي تتسع لمائتي شخص.
تذكرت أنّني في زيارة سابقة، في شهر صيفي، شاهدتهم يحضّرون الطاولات مرتين لتأمين العشاء للضيوف الكثر، لأن صالة الطعام، التي بلغت حدّ الامتلاء الأقصى، لم تستوعبهم جميعاً.
لا يمكن للمؤمن، في هذه الأيام، أن لا يكون مهتمّاً بعيش إيمانه بدقّة وفهم. فالاكتفاء بالممارسات التي ورثها من بيئته ليست كافية، لكي يكون شاهداً للمسيح، في زمن يحتاج إلى هذه الشهادة بأكثر ما يمكن. العيش الأمين، ومعرفة الكنز الذي لا يصدأ ولا يُسرق، ولا يمكن لأحد انتزاعه، لهما الأولويّة، عند المؤمن والجماعة الكنسيّة على السواء. كلّ ما لا يصبّ في هذا المسعى، يبقى نافلاً، وهدراً للوقت والطاقات، إن لم نقل خيانة للإنجيل.
لعلّ أهم ما منحنا الله إيّاه، من خلال القدّيس سلوان، هو أهميّة معرفة الله بالروح القدس. لطالما نصّبنا أنفسنا، كمؤمنين، أدلاءَ إلى الله، لأنّنا قرأنا شيئاً عنه، أو حفظنا وصيّة أو أكثر. الدليل الحقيقي إليه، هو المؤمن الذي تنقّى وتواضع، فسكن الروح القدس فيه، وشعّ من خلاله. الله هو الدليل الوحيد في نهاية المطاف، وما نحن سوى وسائل يستخدمها ليكشف عن ذاته من خلالها.
الله قادر على أن يجتذب البشر إليه من دوننا، نحن الذين نعتبر أنفسنا تلاميذه. روحه يهبّ حيث يشاء. يتجاوزنا عندما نتقاعس ونتلهّى بأهوائنا، لأنّه يشاء الجميع أن يخلصوا وإلى معرفة الحقّ يُقبلوا. دينونتنا عظيمة إن كنّا لا ندرك قيمة الكنز الروحي الذي أُعطينا إياه، ولا نعي مدى سمو الدعوة التي دُعينا إليها ومدى أهميتها.
ربّي، علّمنا أن نعرفك بالروح القدس، معرفة شخصيّة لا نظريّة. علّمنا أن نتجاوز عيوبنا ونقائصنا باستمرار، حتّى نبلغ وجهك المضيء، وأن ننفتح عليك بكلّيتنا، مستصغرين، أمام فرحك، كلّ مباهج هذه الدنيا. أذقنا فرحك الصافي، وأهّلنا لكي نكون شهوداً له.
16 آذار 2016

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share