الأحد الماضي احتفل المسيحيّون الذين يعتمدون التقويم الغريغوريّ بعيد الفصح المجيد، عيد قيامة المسيح من بين الأموات في اليوم الثالث من صلبه. وكان لافتًا في هذه المناسبة أنّ العديد من المسيحيّين والمسلمين قد ابتهلوا إلى الله كي يكون هذا العيد عيدًا لقيامة سوريا ونهضتها من الموت، وعيدًا للقضاء على جحيمها إلى الأبد.
حسنٌ أن يتذكّر المؤمنون في أعيادهم الكبيرة مصائبهم ومآسيهم، وأن يحملوا بلادهم وناس بلادهم في صلواتهم وتضرّعاتهم، وأن يقارنوا بين معاني العيد وواقعهم المرير، إنْ كان ذلك مرتكزًا على الرجاء بأن يطلّ الربّ عليهم ويحميهم من كلّ سوء. لكنّ الصلوات إنْ لم تقترن بالعمل قد لا تجدي نفعًا، وتذهب هباءً كالغبار الذي تذرّيه الريح، وتتكسّر على صخرة الواقع الذي لا يرحم ولا يلين.
لا بدّ من التذكير بأنّ الفصح، لغةً، يفيد “العبور”، العبور من الموت إلى الحياة، العبور من الخطيئة والفساد إلى التوبة، العبور من أرض العبوديّة إلى أرض الحرّيّة، العبور من الإنسان العتيق إلى الإنسان الجديد… لا فصح حقيقيًّا، إذًا، إذا لم يبلغ الإنسان الفصح قائمًا هو أيضًا من موته وخطيئته وفساده وعبوديّته. لا فصح حقيقيًّا إنْ لم يبلغ الإنسان العيد إنسانًا جديدًا على صورة الله ومثاله حقًّا.
لا يمكن سوريا أن تنهض من جحيمها إنْ لم ينهض المواطنون السوريّون. فالناس هي التي تصنع الأوطان، وليست الأوطان التي تصنع البشر، بل هي التي تكون على صورة أهلها. والسائد حين التحدّث عن علاقة الوطن بالمواطنين هو تشبيهها دائمًا بعلاقة الوطن-الأمّ بالمواطنين-الأبناء. لكنّ المفارقة تكمن في أنّ الأوطان، على العكس من علاقة الأمّ بابنها، يلدها أبناؤها. الأبناء يلدون أمّهم، والأمّ هي التي تولَد على صورة أولادها، وتتغيّر مع كلّ تغيّر يطرأ عليهم. هكذا تكون الأوطان على صورة أبنائها. فإن لم تصلح حال الأبناء، فكيف تكون حال الأمّ؟
لا يمكن سوريا أن تقضي على جحيمها إلاّ إذا صار المواطن السوريّ على صورة الله ومثاله، أي حرًّا عاقلاً ناطقًا، كما أجمع آباء الكنيسة. لقد خصّ الله الإنسان، دون سائر المخلوقات، بالصورة والمثال الإلهيّين. والكتاب المقدّس لا يقصد بالصورة والمثال الشكل الإنسانيّ الخارجيّ، بل ما يميّز الإنسان عن باقي المخلوقات، أيّ الحرّيّة الكاملة. فإذا انعدمت الحرّيّة انعدمت صورة الله فيه. لذلك ما فائدة الحديث عن قيامة سوريا فيما أبناؤها ما زالوا مستعبدين لإيديولوجيّاتهم المتذرّعة بالدين والمذهبيّة والعلمانيّة…
“نحن دعاة سلام”، هي عبارة لها أسسها الراسخة في النصوص الدينيّة كافّة. ولكن هل من سلام بين الذئب والحمل، إن لم يتمّ نزع مخالب الذئب أوّلاً، أو تزويد الحمل بترس وقائيّ يصدّ هجمات الطامع بلحمه وعظامه؟ لا يسعنا الكلام عن قيامة سوريا إذا لم يتوفّر السلام الحقيقيّ فيها إلى جانب الحرّيّة والعدل.
“لا سلام للأشرار، يقول الربّ”، يؤكّد النبيّ إشعياء (48، 22). فالسلام هو الخير بالتعارض مع ما هو شرّ، والنبيّ داود يوصي في مزاميره: “جانب الشرّ، واصنع الخير، وابتغِ السلام، واسعَ إليه” (34، 15). لقد فهم الأنبياء أنّ من المستحيل أن يجتمع تحت سقف واحد الخير والشرّ معًا، وبخاصّة أنّ الواحد نقيض الآخر كلّيًّا. وبناءً على التراث الكتابيّ يقول القدّيس يوحنّا الدمشقيّ (+750): “إنّ الشرّ إنْ هو إلاّ فقدان الخير وبعاد عمّا هو بمقتضى الطبيعة إلى ما هو ضدّ الطبيعة”. لذلك يرى يوحنّا أنّ “الشرّ لا يستطيع المسالمة، إذ لا يلائم الشرّ أن يكون سلام”.
ليس السلام في الكتاب المقدّس مجرّد ميثاق بين المتحاربين يتيح حياة هادئة، وليس هو “زمن صلح” مقابل “زمن حرب”، وليس السلام “غياب الحرب”، إنّما السلام يدلّ على وضع الإنسان الذي يحيا في وئام مع الطبيعة، مع نفسه، مع جاره، ومع الله. هو “غياب الظلم وتسلّط الإنسان على الإنسان”. لذلك يترافق لفظ السلام في العهد الجديد دائمًا مع تعابير المحبّة والرحمة والحياة والشفاء والصحّة والبرّ والخير والسعادة والطمأنينة والأمان والفرح والصبر واللطف وكرم الأخلاق والإيمان والوداعة والعفاف…
رجاؤنا أن ينعم السوريّون كافّة بالكرامة الإنسانيّة والحرّيّة والعدل والسلام، حينذاك فقط يسعنا الكلام عن قيامة الوطن السوريّ، الذي نرجو أن يبقى واحدًا، وقيامة السوريّين.
الأب جورج مسّوح
موقع ليبانون فايلز، 30 آذار 2016