الفصح الدائم – المطران سابا (اسبر)

mjoa Tuesday June 7, 2016 211

الفصح الدائم – المطران سابا (اسبر)

غداً، مساءً، نودّع عيد الفصح. أربعون يوماً ونحن في غمرة فرحه القياميّ. أربعون يوماً ونحن نرتّل بحبور: “المسيح قام من بين الأموات، ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور”، في بدء وختام كلّ صلاة فرديّة أو جماعيّة، في البيت أو في الكنيسة. ثمّة تقليد أرثوذكسيّ يستبدل المسيحيّون فيه تحيّة السلام اليوميّة بكلمة “المسيح قام”، وذلك طوال الأربعين يوماً، التي تلي الفصح المقدّس.

wada3غداً سنودّع طقوس الفصح، بينما روحُه ستستمر معنا، إذ لا يمكننا أن نحيا من دونها. “وإذا كان المسيح ما قام فإيمانكم باطل، وأنتم بعد في خطاياكم”(1كو15/17). تشحننا قيامة المسيح بالرجاء، والقوّة، والعمل، والثبات، والحياة الفضلى، الآتية أبداً. إنّها تزوّدنا بالطاقة اللازمة للنهوض، من بعد كلّ سقطة، للبدءِ بالبناء، من بعد كلّ انهيار، وإعادةِ بثّ روح الحياة الفرِحَة، من بعد كلّ نكبة؛ وما أكثرها في دنيانا المعذّبة.
أنت تحيا القيامة في كلّ مرّة تعود فيها إلى نفسك، وتتنبّه لِما فاتك، وتنهض لكي تصلح الأخطاء التي أدركتها، فيك وفي مجتمعك. أنت تحيا القيامة عندما تعي أنّك ابن الحياة، لا الحياة الزائلة الفانية، بل الأبديّة الباقية؛ ابن الحياة التي تُخرِج من الألم صلابة، ومن المحن صبراً، ومن الضعف قوّة، ومن الحزن فرحاً، ومن اليأس رجاءً.
أن تؤمن بقيامة المسيح من بين الأموات، يعني أنّك تؤمن بقيامتك أنت، وتالياً بقيامة العالم، من كلّ موت وموات. أو بالأحرى تترجمها، في حياتك، فعلاً قياميّاً، فلا ترضى بأن تبقى كما أنت، بل تتابع النضال، طالباً العلى والأفضل، وتسعى إلى النصيب الصالح، الذي لا يُنزع منك (لو 10/42). المسيحيّ إنسان قياميّ، بمعنى أنّه يحيا القيامة في كلّ حين، وإلا فهو لم يطأ عتبة المسيحيّة بعد. فإذا ما رزح تحت موتٍ ما، فإنّه سرعان ما يستدرك ضعفه، ويعود ليستنهِضَ ذاتَه، بنعمة قيامة سيّده، ليبقى في سرّ القيامة، على الرغم من أشكال الموت الكثيرة، التي قد تحيط به. إنّه يستمدّ، من مسيحه القائم، نبض الحياة والرجاء والتفاؤل، وعلى الأخصّ تصويب نظره، إلى هدف حياته الأسمى والأساس.
هذا كلام جميل، ولكن كيف يُعاش؟ وكيف يتحقّق في الحياة اليوميّة؟ لقد حفظنا الأجوبة الذهبيّة عن ظهر قلب. وغالباً ما نردّدها، دونما وعي داخلي، فنقول: قام المسيح ليمنح البشر الخلاص، وليفتح لهم طريق الحياة ثانية، ذاك الذي أُغلق بخروج آدم وحواء من العيش في كنف ربّهما. قام ليمنحنا طاقة عيش الحياة الأبديّة، هذه، المنسيّة من البشر دوماً. قام لأنّ الإله لا يموت. وسواها من الأجوبة الصحيحة، التي اعتدنا على تكرارها. لكنّنا كثيراً ما ننسى أنّ فعلها الحيّ والبادي فينا، هو الأهمّ.
يعي الإنسان فعل القيامة ويحياه، عندما يدرك أنّه مخلوق للحياة الأبديّة، فينظّم حياته بناءً على هذا الإدراك الواعي. يرى أنّه لن يحيا على هذه الأرض أكثر من سنوات، مهما طالت، لن تتجاوز المائة، في أفضل الأحوال، ومعظمها كدّ وعناء، على ما يقول المزمور(89/10). يعي أنّه مخلوق لحياة لا تنتهي، ولا تزول بزوال حياته الأرضيّة، وإنّما تبدأ بملئها من تلك اللحظة.
يمنحه هذا الوعي قراءةً جديدةً للحياة الأرضيّة، وصعابها، وآلامها. فيرى فيها ما كان لا يراه من قبل، ويدرك أنّه يستطيع، بهذا الإيمان القياميّ، أن يستخرج منها فائدةً، له ولغيره. يصحّ فيه قول الرسول بولس: “كلّ الأشياء تؤول للخير، للذين يحبّون الله”(رو8/28). فيرى في الصليب فرحاً وتعزية، لأنّه يمكّنه من الجهاد والسموّ والارتقاء. يتعلّم الصبر، والحنان، والرحمة، والإحساس بالموجوع والمتألم والمتروك، فيكتسب، من ربّه، دفقاً لا ينضب من الرقّة الحانية، التي لا تُكتسب إلا بالمعاناة الصادقة. ويختبر الفرح الهادئ، النابع من حضور ربّه، في ذاته، التي أفسحت المكان له، فأتى وصنع عنده منزلاً (يو14/23). ويتذوّق السلام الذي لا يمكن للشرّ، مهما عظم، أن يسلبه إيّاه (يو14/27).
أمّا العلامة الفضلى على إدراكنا لهذا المستوى الإيماني، فهي درجة تحرّرنا ممّا يقيّدنا في هذه الدنيا، وشهواتها. يقتضي طلب الحياة الأبديّة تغيّراً دائماً منّا، واختباراً لحضور الله في حياتنا. فنحبّ بساطة العيش، ونطلب الجوهر، ولا نعير التمظهر وتعظّم المعيشة أهميّة، ونتغرّب عن عيشة البذخ والتشاوف، لا بل نقرف منها، ونتحسّس آلام الآخرين، ونغتبط لمشاركتنا إيّاهم. نجلس، على مثال مريم، عند قدمي السيّد، ونستكين له، لأنّ فرحنا، آنذاك، لا يمكن وصفه. يختبره من لمسته نعمة القيامة، وعرف، بحقٍّ، تغيير ذهنه، وتالياً، كيانه كلّه.
يقود الصليبُ، قليلَ الإيمان، إلى الكفر والتيه، بينما يوصل المؤمنَ إلى القبض على معنى الحياة الأكمل. يكره غير المؤمن الضيقَ والمحن والألم، فيكتئب ويغضب على الحياة، وينقم على الآخرين، وقد يودي به يأسه إلى الانتحار. إذ ما من رجاء له. بينما يرى المؤمن، الحقّ، فيها سبلاً إلى تجاوز سقطاته، وميداناً لتفعيل محبّته، وإحياءً لإيمانه، وقيامةً إلى الحياة الفضلى؛ ما يودي به إلى شكر الله، في السرّاء والضرّاء.
يطلب الكثيرون الفرح في غير محلّه. يضيقون بمحنة البلد، فيهربون إلى منفذ، ينفّس قلقهم واحتقانهم، ويطلبونه في ما يمنحهم وهمَ سعادةٍ، وابتهاجاً وقتيّاً، ينتهي بانتهاء ما ظنّوه تعويضاً، ليجدوا أنفسهم في قلق أشدّ، وخوف أعمق. هل من دلالة أكثر وضوحاً على غياب القيامة، من حياتنا، أكثر من عدم إدراكنا لها، على الرغم من الشدائد والمخاوف، التي نعيشها من جرّاء ما يحدث في بلدنا؟ إن لم تكن القيامة حاضرةً فينا اليوم، فمتى ستكون؟
وداع الفصح غداً، تذكير لنا بعيشه طوال السنة.
06 حزيران 2016

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share