سوسان حنّا، جدّة أبي، عثمانيّة. يوسف مسّوح، جدّي لأبي، عثمانيّ ثمّ علويّ. إبراهيم مسّوح، أبي، علويّ ثمّ سوريّ ثمّ لبنانيّ. أنا وُلدت سوريًّا ثمّ نلت الجنسيّة اللبنانيّة. بناتي الثلاث لبنانيّات “منذ أكثر من عشر سنوات”، لكن ماذا سيصبحن ثلاثتهنّ في مقبل الأيّام فعلمه عند الله، عزّ وجلّ، وحده.
وُلدت سوسان، جدّة أبي، وفق تذكرتها العثمانيّة الصادرة عام 1900، عام 1870، في قرية حبنمرة من قرى وادي النصارى الواقعة آنذاك في أراضي الدولة العثمانيّة. إلياس سلّوم مسّوح، جدّ أبي، زوج سوسان، لا نعرف تاريخ ميلاده، لعدم وجود وثيقة باسمه.
سوسان أنجبت يوسف، جدّي، عام 1888. حبنمرة كانت لا تزال تحت حكم السلطان العثمانيّ. جدّي يوسف وُلد عثمانيًّا لكنّه توفّي مواطنًا علويًّا، كما يبدو واضحًا من صكّ النفوس الخاصّ به الصادر عن “حكومة دولة العلويّين المستقلّة” بتاريخ 24 أيلول 1925. اللافت أنّ المقابل الفرنسيّ لـ”حكومة دولة العلويّين المستقلّة” هو “دولة العلويّين” فقط: “Etat des Alaouites”. الطابع الموضوع على صكّ النفوس الخاصّ بجدّي يجمع ما بين الجمهوريّة الفرنسيّة (ماريان)، الدولة المنتدبة، وسورية ولبنان الكبير.
حبنمرة التابعة لسنجق طرطوس، قضاء حمص، مع عدم ذكر وادي النصارى، وفق صكّ النفوس الخاصّ بجدّي، تصبح في ظلّ الجمهوريّة العربيّة السوريّة تابعة، وفقًا لهويّة أبي السوريّة، لأمانة السجل المدنيّ في “وادي النضارة” (لتفادي أيّ إشارة طائفيّة)، منطقة تلكلخ، محافظة حمص. حبنمرة هي ذاتها وُلد فيها إبراهيم، أبي، عام 1923، مواطنًا علويًّا، ثمّ أصبح مواطنًا عربيًّا سوريًّا بعد استقلال سورية، ثمّ لبنانيًّا عام 1994.
أنا، وُلدت في سدّ البوشريّة، قضاء المتن، عام 1963، مواطنًا سوريًّا، ثمّ أصبحتُ لبنانيًّا عام 1994 بفضل مرسوم التجنيس الشهير. بناتي الثلاث وُلدن لبنانيّات، أعوام 1996 و1999 و2002. هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ وادي النصارى كان مثار مفاوضات ما بين الفرنسيّين والبطريركيّة المارونيّة في شأن ضمّه إلى “لبنان الكبير” أم أن يكون ضمن أراضي “دولة العلويّين”. غير أنّ الأمور قرّت على أن ألاّ يكون الوادي “الأرثوذكسيّ” ضمن الوطن اللبنانيّ. ولو قيّض، آنذاك لأهل وادي النصارى أن يكونوا لبنانيّين لكانوا، بلا شكّ، على غرار أهل عكّار جيرانهم، مواطنين لبنانيّين غيارى على وطنهم اللبنانيّ.
يبدو أنّ الثابت الوحيد في تنقّلات هويّاتنا هو أنّنا “روم أرثوذكس”. جدّتي العثمانيّة مذهبها وفق تذكرتها “روم”. جدّي العلويّ مذهبه “أورثوذكس” وفق صكّ نفوسه. أبي “روم أرثوذكس”. وأنا وبناتي، إلى الآن، روم أرثوذكس. حتّى الهويّة الدينيّة كان يمكن لها أن تتغيّر، لو اختار جدّ أبي، أو جدّي، أو أبي، أو أنا أن نبدّل انتماءنا الدينيّ، أو الطائفيّ. ولست أدري على أيّ مذهب ستذهب بناتي الثلاث.
اللافت من الخبرة الهوياتيّة أعلاه أنّ المسيحيّين السوريّين المنتشرين على كامل الأراضي السوريّة أمكنهم العيش، خلال مائة عام، في ظلّ الدولة العثمانيّة، الدولة الإسلاميّة السنّيّة، ثمّ في ظلّ الدولة العلويّة، وفي ظلّ الدولة الدرزيّة (السويداء وجبل العرب)، دولتي الأقلّيّات، وفي ظلّ الدولة القوميّة العربيّة (العلمانيّة). وسوف يبقون في سورية مهما تغيّرت هويّة الدولة التي سيحيون في ظلّها.
طبعًا، هم يتوقون إلى دولة المواطنة الكاملة، دولة المساواة في الحقوق والواجبات، دولة حقوق الإنسان… هذا هو طموحهم. هم يأملون ببقاء سورية وطنًا موحّدًا لجميع أبنائه من مختلف المذاهب والقوميّات، وأن تكون العلاقات ما بين الجميع أساسها الاحترام المتبادل وقبول الاختلاف، ونبذ التطرّف.
لقد نسينا في حروبنا الهويّاتيّة هويّتنا الجامعة، الهويّة الإنسانيّة التي تمتدّ جذورها إلى مئات السنين من الشراكة في بلاد الشام العزيزة. طغت علينا هويّاتنا القاتلة، وفق قول أمين معلوف، هويّاتنا الدينيّة والمذهبيّة والقوميّة. ما معنى أن أكون سوريًّا أو لبنانيًّا، أو مسلمًا أو مسيحيًّا، أو سنّيًّا أو شيعيًّا أو علويًّا، أو مارونيًّا أو أرثوذكسيًّا، إذا كان ذلك على حساب إنسانيّتي؟ ما معنى أن ننتمي إلى المنطقة التي شهدت نشأة الأديان التوحيديّة الثلاث إذا كان الثمن حروب دائمة باسم الإله؟
رجائي ألاّ تهاجر بناتي إلى بلاد يحترمون فيها الإنسان أكثر من هذه البلاد المجنونة بصراعاتها العبثيّة في شأن هويّات تُستغل في سبيل الفتنة، بدلاً من أن تكون المدخل إلى تبنّي الهويّة الإنسانيّة الجامعة. سورية، “ضيعانك”.
الأب جورج مسّوح
موقع ليبانون فايلز، 12 تشرين الأول 2016