الأبوّة الروحيّة: الأبوّة في الكتاب المقدّس – رزق
في عالم يقدّس أخوّة من دون أبوّة، يُعلن الكتاب المقدّس أنّ اللَّه هو أساسًا أب، وأنّ الأخوّة تنبع من البنوّة.
يُظهر العهد القديم محبّة الإله الحيّ وسلطانه بصورتَي الآب والعريس، مرتكزًا على آباء هذا العالم الذين تعطيهم الحياة العائليّة المجال لممارسة سلطتهم وتحقيق ذواتهم بالمحبّة، وذلك خلافًا للطريقة البغيضة التي كانت تصف فيها الوثنيّة آلهتها. انتقلت فكرة الأبوّة في العهد القديم من التأكيد على الآباء (إبراهيم وموسى ويعقوب….) إلى مَن هو “أبو الآباء”، الذي هو أبو شعبه الخاصّ وعريسه، كما نجد عند هوشع وإرميا. هو يحفظ شعبه، يحميه، ويدافع عنه. يمارس سلطانه على شعبه وضدّ أعداء هذا الشعب. ومحبّته دائمًا مقرونة بممارسة هذا السلطان.
وأمّا العهد الجديد، فيتبنّى صورتَي السلطان والمحبّة محوّلاً إيّاهما إلى سلطان واحد هو سلطان المحبّة، ويكمّل صورة الآب بإعلانه بنوّة يسوع التي تجعل منه أبًا لأبناء. ويعلن يسوع كذلك أنّ هذا الآب هو أبو أبناء كلّ الشعوب، وليس في شعب واحد. فيطلب منّا أن نقول “أبانا” وليس “أبي”. يعطي هذا الأب “للجميع” الخيرات الضروريّة لنموّنا (متّى6: 26، 32 و7: 11)، وقبل كلّ شيء الروح القدس (لوقا 12: 13). يظهر لنا حنانه ورأفته اللامتناهية (لوقا 15: 11-32).
علينا أن نعترف بهذه الأبوّة الوحيدة (متّى 23: 9)، وأن نعيش كأبناء يبتهلون إلى أبيهم (متّى 7: 7-11)، واضعين فيه كلّ ثقتهم (متّى 6: 25-34)، خاضعين له، ومتمثّلين بمحبّته للجميع وميله إلى الغفران (متّى 18: 33) والرأفة (لوقا 6: 36) والكمال (متّى ٥: ٤٨)، مع التأكيد أنّ المحبّة والغفران هما للجميع، بمن فيهم الأعداء. يظهر اللَّه إذًا أبوّته لنا بواسطة محبّته وغفرانه. ونكون أبناءه على قدر ما نتصرّف مثله تجاه كلّ إخوتنا.
لا يوجد أب، في العهد الجديد، سوى الآب. لم يدع يسوع نفسه قطّ أبًا، ولا أطلق هذا الاسم على أيّ إنسان. لا بل أوصى ألاّ ندعو أحدًا أبًا على الأرض، لأنّ أبانا واحد (متّى 23: 9) هو الآب، ومنه تأخذ كلّ أبوّة اسمها (أفسس 3: 15). إذًا، لا توجد أبوّة حقيقيّة غير مترسّّخة في اللَّه الآب، ولا تُظهر أبوّته أو تجسّدها.
يعتبر بولس الرسول نفسه تلميحًا أبًا، بمعنى أنّه ولد أبناء روحيّين، أو بالأحرى ولد المسيح فيهم (1كورنثوس 4: 15، 1 تسالونيكي 2: 11، فيليبّي 1: 10). لا يتكلّم على “أبنائه الروحيّين” إذ ليسوا أبناءه بل أبناء اللَّه. إن اعتبرهم أولاده فقط، لا يكون أبًا بالحقيقة، بل إنسانًا يولد أناسًا مثله، وعلى صورته ومثاله. يقول بولس: “ليس لكي أخجلكم أكتب بهظذا، بل كأولادي الأحبّاء أنذركم. لأنّه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرون. لأنّي أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل. فأطلب إليكم أن تكونوا متمثّلين بي” (1كورنثوس 4: 14- 16)، أي فاعلين مثلي، عاملين في ورشة الملكوت، ساعين لإيجاد نحن أيضًا، بعد أن وُلدنا، أولادًا للآب السماويّ وإخوة ليسوع. لم يكن همّ بولس نقل الإنجيل فقط إلى تلاميذه بل، كما قال: “كنّا نرضى أن نعطيكم لا إنجيل اللَّه فقط بل أنفسنا أيضًا لأنّكم صرتم محبوبين إلينا” (1تسالونيكي 2: 8). إذًا، لن يكفي التعليم لإيجاد الأبناء، بل يلزمهم المثال الحيّ المبذول في الخدمة والمحبّة والذي يجسّد التعليم. ولا بدّ للأب، كما فعل بولس، من أن يسهر على “كلّ واحد على حدة”، و”بدموع”، لترسيخهم في الحياة في المسيح (أعمال 20: 31، أفسس 4: 12- 16). بهذا التصرّف يرسم بولس صورة ما سُمّي في ما بعد “الأب الروحيّ”.
الأبوّة في الكنيسة الأولى
كان الأب الروحيّ في الكنيسة الأولى، حيث كان معظم المسيحيّين يُقدم إلى المعموديّة في سنّ الرشد، مَن تولّى مسؤوليّة تعليمهم لمّا كانوا موعوظين. وبما أنّ التعليم المعدّ للمعموديّة كان يُعطى جماعيًّا، يمكن اعتبار “المعلّم” (ذيذاسكالوس) كأب روحيّ جماعيّ يعيش مع تلاميذه حياة شبه رهبانيّة على صورة الجماعة المسيحيّة الرسوليّة الأولى. وعندما كثرت الأعداد وما بقي بإمكان “المعلّم” أن يعايش موعوظيه، تبنّى معايشتهم “العرّاب”. فيظهر إذًا منذ البدء أنّ التلمذة في المسيحيّة ذو شقّين، “التعليميّ والتطبيقيّ”. لا يكفي معرفة ما قاله الربّ، على أهمّيّته، لكن يجب عيشه بالامتثال بمَن اختبر مثل هذه العيشة. لا يكفي معرفة كلمة اللَّه بواسطة السمع أو القراءة، بل يجب قراءتها أيضًا في حياة الإخوة الذين يجسّدونها. التعليم يمكن أن يوصـلنا إلى الإيمان الذي يخوّلنا أن نتعمّد ونصير أعضاء في الكنيسة. ولكنّ معمـوديّة واحـدة لا تكـفي إذ يجـب إعادة إحيائها باستمرار عند سلوك الدرب الذي يوصل إلى هدف حياتنا المسيحيّة، ألا وهو الحياة في المسيح والتألّه. لا يكفي أن ندخل الكنيسة، بل علينا الدخول فيها، في أعماقها، في شركة قدّيسي السماء والأرض، لكي نتقوّى بإيمانهم ودعائهم، فنصير أهلاً لمسيرة الجهاد، فنسعى إلى القداسة، ويُصبح بإمكاننا أن نولِد آخرين على الحياة الروحيّة.
ولا بدّ لنا في هذه المسيرة من “عرّاب”، من “دليل”. وكما يكون لمَن يريد تسلّق جبل لا يعرفه دليل يعرف هذا الجبل جيّدًا ويرشده إلى مزالقه، كذلك الأمر مع مَن يريد ولوج الحياة الروحيّة والوصول إلى قمم الحياة مع اللَّه. هذا الدليل هو ما نسمّيه “الأب الروحيّ” ويمكن تسميته بالأخ الروحيّ أو الأخت الروحيّة، أو حتّى المرشد. يمكن لكاهن الرعيّة، أو ما يُسمّى أحيانًا كاهن الاعتراف، أن يقوم بدور الأب الروحيّ، لكن ليس ضرورة. كاهن الرعيّة هو مَن “يعرّف” أبناء الرعيّة، ويعيدهم إلى الكنيسة بعد خطأ أو شطط. باسم الجماعة يعود فيصالحهم معها. هذا هو دور الراعي، الذي أُنيط بنعمة الغفران التي يهبها اللَّه. يختلف الحديث مع الأب الروحيّ عن الاعتراف. لا تشمل مسؤوليّة الأب الروحيّ مغفرة الخطايا، بل الإنارة وإبداء النصح والتعزية وتشجيع العزائم.
يشدّد التقليد الأرثوذكسيّ على ضرورة الأبوّة الروحيّة. يقول القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد: “الذين لا أب لهم لم يصيروا أبناء، والذين لم يصيروا أبناء، من الواضح أنّهم لم يولدوا. والذين لم يولدوا لما دخلوا العالم الروحيّ” (الرسالة 4). ينصحنا الآباء بأن نصلّي بحرارة لكي يرشدنا اللَّه إلى أب روحيّ خالٍ من الأهواء، صارم مع نفسه ورؤوف مع الغير، إذ الأبوّة الروحيّة الصالحة تساعد على الصعود فوق المؤسّّسة في الكنيسة لولوج علاقة حيّة مع الإله الحيّ. الأب الروحيّ إنسان مُلهَم مجاهد أعطاه اللَّه أن يُلهِم.
عند آباء الصحراء
انتشرت الأبوّة الروحيّة، كما عرفتها الكنيسة الأرثوذكسيّة، عند رهبان الصحراء الذين كانوا يأتون إلى مَن يرونه من بينهم متمرّسًا في الحياة الروحيّة للاستشارة والاسترشاد.
يقول الأنبا بيمن: “اذهب واربط حياتك مع إنسان يخاف اللَّه،… فيعلّمك أن تخاف اللَّه أيضًا”. وبما أنّ المخافة هي بدء الحكمة، فستعلّمك فنّ الجهاد ضدّ كلّ ما يلهي عن الربّ. إن لـم نكـن نريد تحقيق مشيئة اللَّه ومعرفة السبل التي توصلنا إليها، لا داعي لأن نفتّش على أب روحيّ طالبين منه: “قلْ لي كلمة”، أو “ماذا عساني أن أفعل لأخلص؟”.
نجد أفضل تحـديد للأب الـروحـيّ في قـول باخوميوس إلى أحد الرهبان الذي كان يريد أن يتّخذه تلميذًا: “إنّي مستعدّ على قدر ما يسمحه ضعفي، لأن أجاهد معك إلى أن تصل إلى معرفة ذاتك” (حياة باخوميوس القبطيّة 10).
الأب الروحيّ هو إذًا إنسان جرحته محبّة الربّ، فيطلب الرأفة والغفران على خطاياه الشخصيّة، ويسعى إلى أن يبرز في حياته قبل أقواله وفي تواضع كلّيّ، طاعته للمعلّم الوحيد الذي هو روح اللَّه. يقول سيسوه (ساسين) لأحد تلاميذه الذي يلحّ لسماع كلامه: “لماذا تلحّ هكذا. اصنع ما تراه”.
لا ينصّب الأب الروحيّ نفسه أبًا روحيًّا. لا يضع على باب قلاّيته: “هنا يوجد أب روحيّ”، كما يمكن للأب المعرّف أن يضع. يصيره عندما يأتي إليه التلميذ الذي يرى عبر حياته طينة المعلّم. يقول القدّيس أنطونيوس الكبير: “الآباء القدامى ذهبوا إلى الصحراء فنالوا الشفاء وصاروا أطبّاء فساعدوا آخرين على الشفاء. أمّا نحن الذين نخرج من العالم قبل الحصول على الشفاء، ونريد معالجة آخرين، وإذ بنا نسقط، فتكون الحالة الأخيرة أسوأ من الأولى، ونسمع الربّ يقول لنا: “يا طبيب طبّب نفسك” (لوقا 4: 23)” (أقوال أنطونيوس 3،6).
لا يعلّم الأب الروحيّ شيئًا لم يحقّقه هو، كما يقول كاسيانوس: “لم أعلّمك قطّ شيئًا لم أفعله قبلاً”.
الأب الروحيّ ينصح ولا يأمر، يرافق كما يفعل الدليل. يقول بيمن: “كن مثالاً لإخوتك ولا مشرّعًا”.
الصفات التي على الأب الروحيّ أن يتحلّى بها
يمكن تلخيص صفات الأب الروحيّ الأساسيّة عبر بعض أقوال الآباء الشيوخ التي ذكرنا، وحياة آباء روحيّين كبار (ستاريتس أو شيوخ) بأنّها:
التمييز (ذياكريسيس) الذي يمكّنه من معرفة أسرار القلوب بطريقة عفويّة ناتجة من جهاد روحيّ طويل وكثير من الصلاة.
موهبة الكلام (“قلْ لي كلمة”)، أيّ إبداء الرأي المناسب في الوقت المناسب بغية خلاص النفس.
الصلاة الحارّة من أجل الأبناء. يقول أحد الشيوخ، مبتهلاً إلى اللَّه: “اجعل أن يدخل أولادي معي إلى الملكوت، أو احذف اسمي من كتابك” (الرسالة 187).
الشعور بالخطيئة الخاصّة ووعي ضعفه. يقول بايسيوس فيليكوفسكي، مترجم الفيلوكاليا إلى اللغة السلافيّة، متوجّهًا إلى شيوخ كبار: “إنّنا جميعنا لا نزال مبتدئين وما زلنا نحتاج إلى الإرشاد”. لا يعرف الأب الروحيّ الحقيقيّ أنّه أب روحيّ، بل يطلب الصلاة من أجل خطاياه.
قدرة تحويل البيئة الإنسانيّة، إذ يساعد أولاده على النظر إلى العالم كما خلقه اللَّه وكما يريد أن يراه مجدّدًا. يجعلنا “نخرج في اللحظة”، نستعيد معنى وجودنا، نتذكّر وجود النور الذي يشعّ في ظلماتنا، فنقوّم مسيرتنا ونعي وجه الكون الحقيقيّ الذي علينا استعادته وتقدمته مجدّدًا إلى الخالق (“التي لك ممّا لك نقدّمه لك”) ككهنة هذا الدهر.
على الأب الروحيّ أن يكون تتلمذ قبل أن يصير بدوره أبًا. عليه أن يعرف طريق الجهاد القاسي ومصاعبه وكيف يجب تجنّب مكايد الشيطان. وقد تدرّب أيضًا على معرفة القلب البشـريّ وحـركات النـفـس ومحاربة الأهواء، وخضع لإرشاد أب روحيّ متمرّس. لا يصير الإنسان بين ليلة وضحاها أبًا روحـيًّا. عليه أن يتحلّـى بخبرة طويلة (ذوكنوس)، ووصل إلى حالة اللاهوى والسكينة الداخليّة.
التواضع والمحبّة. التواضع هو ميزة المسيح الأولى التي جعلته يمّحي على الصليب، وينزل إلى الجحيم محبّة بالبشر. على الأب الروحيّ أن يكتسب هاتين الفضيلتين ليصل إلى حالة النضج الروحيّ. لا علاقة لذلك بالعمر ولا بالموقع. ليس الأب الروحيّ ضرورة راهبًا أو كاهنًا أو شيخًا. يمكنه أن يكون علمانيًّا أو علمانيّة، وألاّ يكون طاعنًا بالسنّ.
الرأفة والحنان. عمل الأب الروحيّ أن يقف إلى جانب ابنه من دون أن يدّعي أنّه أستاذ له، بل يكون مستعدًّا ليشاركه آلامه وتعبه، إن رأى أنّه يسعى حقًّا لإتمام مشيئة اللَّه فيه. يقول الأرشمندريت صوفروني (سكاروف)، تلميذ القدّيس سلوان الآثوسيّ: “أعطي ذاتي للجميع ولكلّ واحد من أبنائي، وبخاصّة للمتألّمين منهم، والذين يحتاجون بإلحاح إلى مساعدة، والمنكسرين في عزلة خانقة، والمرضى والذين يرزحون تحت وطأة عمل يفوق قواهم أو ضعفاتهم. إلى هؤلاء جميعًا أوّلاً أوجّه قلبي وانتباهي… عمل (الأب الروحيّ) صعب ومتشعّب لأنّ الذين يأتون إليه يأملون أن يكون منتبهًا إلى كلّ مشاكلهم وأن يشاركهم أحزانهم… يمكن لأقلّ تغافل وإهمال من قبله أن يجرح ابنه عميقًا ويجعله يدخل طويلاً في تجارب خطيرة” (رسائله لأصدقاء مقرّبين، 2013، ص. 83- 84).
الامتلاء من الروح القدس. لا يتّكل الأب الروحيّ على فهمه أو علمه أو أيّ سلطان يدّعيه، بل عليه أن يدع الروح القدس يتكلّم عبر ضعفه. دوره إذًا نبويّ، مواهبيّ. لا يهمّ إن كان شهيرًا أو متواضعًا، مثقّفًا أو لا، لأنّ الروح القدس يعمل فيه ولا دور لإمكاناته العلميّة أو شخصيّته. ينهي الناس عن تعظيمه، مذكّرًا دومًا بأنّ لا استحقاق له بل للروح الذي عليه أن يختفي أمامه. لذلك يجب عدم إعلان اسم الأب الروحيّ حفاظًا على تواضعه.
“تمييز الأرواح”. لا يهمّ الأب الروحيّ عدد الخطايا أو تعدادها. يهمّه فقط أن يصل إلى القلب ليعمّق فيه التواضع والإيمان والمحبّة، وينقل إليه سلام الربّ. يعرف ما هو في داخل الإنسان. لذلك يمكنه أن يوصل مَن يلجأ إليه إلى طريق الخلاص. يقول فلاديمير لوسكي، أحد كبار اللاهوتيّين الأرثوذكس في القرن العشرين، متكلّمًا على الشيخ الحقيقيّ: “إنّه يتوجّه دائمًا إلى الشخص البشريّ، في مصيره الخاصّ ودعوته وصعوباته. بموجب موهبته الخاصّة يرى كلّ إنسان كما يراه اللَّه، ويسعى لمساعدته بجعل كيانه الداخليّ ينفتح، بدون أيّ إرغام لإرادته، لكي يتحرّر شخصه من كلّ رباط خفيّ لكي ينشرح في النعمة. لا يكفي لإتمام هذه العمليّة المواهبيّة أن يكون له معرفة عميقة بالطبيعة البشريّة يكتسبها من خبرة طويلة (أمضاها في محاربة الأهواء)، بل لا بدّ من أن يُكشف له الشخص كلّ مرّة يسدي نصائحه، إذ لا يمكن أن يُعرف الشخص إلاّ بالكشف والإعلان”. إذًا “يرى” الأب مَن يأتي إليه ويكيّف الكلام الذي يأتيه من اللَّه ليناسب أوضاعه.
له معرفة واسعة وعميقة بروح الكتاب المقدّس وحرفه، لكي يرشد بواسطتهما مَن يأتي إليه، وليس بعلمه أو فهمه الخاصّ.
يقول بايسيوس فيليكوفسكي: “على الأب الروحيّ أن يتحلّى بمحبّة صادقة وحقيقيّة للجميع. أن يكون وديعًا ومتواضعًا وصبورًا. أن يتحرّر من الغضب، ومن كلّ الأهواء الأخرى، على قدر ما يمكن ذلك لإنسان. وأن يكون نقيًّا أمام الربّ في أعماله وأقواله وأفكاره”. عليه أن يكون مثالاً في الحياة والأخلاق المستقيمة والصالحة وفي العفّة.
الداعي باستمرار إلى اكتشاف محبّة اللَّه “الجنونيّة” غير المشروطة، فيفهم التلاميذ أنّهم محبوبون من اللَّه مهما كبرت معاصيهم.
عليه أن يكون أيقونة الرأفة الإلهيّة، يتشفّع من أجل أبنائه، يكون مستعدًّا ليأخذ على عاتقه سقطاتهم ويحاجج اللَّه من أجل مغفرة خطاياهم. يقول الأب أمفيلاخيوس، مؤسّّس دير الإفانجيليسموس في بتموس، الذي عاش فيه المطران كاليستوس (وير): “الأب الروحيّ يتألّم ويتعب ويبكي ويصلّي أكثر من الذين يأتون إليه. هكذا يمكنه مساعدة الناس”. وفي سيرة الستارتس موسى من دير أوبتينا في روسيا، نجده يقول: “أدركت اليوم كيف يجب عليّ أن أتصرّف مع الإخوة. على أن أتحمّل كلّ الخطايا التي يعترفون بها إليّ أو التي ألاحظها فيهم. وعليّ أن أتوب عنها كما لو كانت أخطائي كيلا أحكم عليهم بقساوة وأتجنّب الغضب” (مذكور في “الأبوّة الروحيّة في روسيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر”، تأليف فلاديمير لوسكي ونيقولا أرسينييف).
الأبوّة الروحيّة عمليّة شخصيّة بين الأب والابن الروحيّ.
يقول أحد الكهنة الروس المعاصرين: “كلّنا يحتاج إلى إرشاد روحيّ، لكن ما هو نافع لشخص يمكن أن يضرّ شخصًا آخر. الإرشاد يجب إذًا أن يكون دومًا شخصيًّا. إن سعى إنسان إلى أن يوجّه حياته باتّباع أمثال القدّيسين، يمكنه أن يقع في وهم وحتّى بعض الجنون. وكذلك يجب ألاّ يعتبر الإنسان كلّ ما يصدر عن معرّفه أنّه حقيقة إنجيليّة، ولا كلّ ما يقوله يحمل بركة. ومن جهة أخرى يكمن خطر في إهمال نصيحته أو عدم احترامها. أحيانًا يأتي الناس إليّ عندما أكون منشغلاً في شيء آخر، ويطلبون منّي بركة قبل أن يفعلوا كذا وكذا. وأنا، لانشغالي، أقول لهم: حسنًا. لكنّ هذا الأمر جدّيّ، عليك بالصلاة والتأمّل بعض الوقت قبل أن تشرحه إلى المعرّف. وحده الستارتس يعرف مسبقًا ما تريد أن تسأله عنه. وليس كلّ معرّف هو ستارتس. إن شعرت بأنّ الكاهن لم يفهم شيئًا، عليك أن تشرح له مجدّدًا. أنت تطلب إلى الكاهن أن يجعل اللَّه بإيمانه يكشف مشيئته لك. يشبه الكاهن قسطلاً مصدأ يمكنه مع ذلك أن يعطي نفسك ماءً نقيًّا. إن كنت لا تثق به، فتّش عن معرّف آخر. هناك كهنة صالحون، ناشطون ومنتبهون. إنّهم رعاة قيّمون. لكن أخشى أن أدعوهم ستارتس. عندما يرى المرء أنّ خطاياه تفوق عدد رمل البحر، من الطبيعيّ أن يفتّش عن أب روحيّ، بما أنّه لا يمكنه الاتّكال على نفسه. ترجع قلّة الشيوخ في أيّامنا إلى كون الناس لا يعتبرون أنّهم بحاجة إليهم… إن لم يوجد أبناء روحيّون فكيف للشيوخ أن يسدوا نصائحهم الروحيّة؟” (الأب أركادي، مذكور في المرجع عينه، ص. 184).
عمليّة الشفاء
عمليّة شفاء النفس (باليونانية كاثارسيس (catharsis التي يسعى إليها الأب الروحيّ هي موت للخطيئة، وهي أيضًا مشاركة حقيقيّة في صليب المسيح. بها نولد من جديد كأعضاء في جسد المسيح. نرتّل في أعياد الشهيدات هذه الطروباريّة: “يا ختني إنّي أشتاق إليك، وأجاهد طالبةً إيّاك وأُصلب معك لكي أحيا بك”. تستغرق عمليّة الشفاء بعض الوقت. فهي تتطلّب المثابرة والإصرار. يقول القدّيس سلوان الأثوسي: “التعلّم يتطلّب وقتًا طويلاً… لن تتعلّم التواضع من مرّة واحدة”. والكلمات التي قالها المسيح له: “احفظ ذهنك في الجحيم ولا تيأس”، تشجّعنا على البقاء على الرجاء مهما كانت الصعوبات والتجارب.
مخاطر الأبوّة الروحيّة غير الصالحة
لا ينصّب الأب الروحيّ نفسه أبًا روحيًّا، بل تعرف الجماعة الكنسيّة مَن لديه هذه الموهبة، فتكشف له موهبته، ويأتي إليه التلاميذ. يشتكي جميع كبار الروحانيّين المعاصرين من قلّة الآباء الروحيّين الحقيقيّين. يقول مثلاً المطران سمعان (كوتساس)، متروبوليت سميرنا الجديدة في اليونان: “كثير من كهنتنا يدّعون موهبة الأبوّة الروحيّة باكرًا، وهم لا يزالون شبابًا وغير ناضجين وبدون خبرة رعائيّة، وبدون الخضوع إلى إرشادات أب روحيّ متمرّس. فيعتبرون ذواتهم “برصنوف جديدًا” أو شيوخًا ذوي موهبة وهم لا يزالون أطفالاً… فيحومون سعيًا وراء التلاميذ. يتسلّطون على ضمائر الناس بادّعاء الطاعة العمياء الواجبة للشيوخ… أساقفتنا هم أيضًا مسؤولون عن هذا الوضع، إذ يقبلون أن يقوم بالإرشاد الروحيّ أناس غير راشدين. وأمام ادّعاء الكثيرين أنّهم آباء روحيّون، قال البطريرك الروسيّ ألكسي الثاني: “بعامّة يصرّحون أنّ شرط الخلاص الضروريّ والوحيد يكمن في طاعة كاملة لما يقولون، محوّلين أولادهم الروحيّين إلى آلات لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا من دون بركة واحد من هؤلاء الستارتس. فيحرمون الناس من ممارسة حرّيّة إرادتهم المعطاة من اللَّه. ويؤكّدون ممارساتهم هذه باستشهاد خاطىء بأقوال الآباء القدّيسين، مشوّهين بذلك رتبة الأبوّة الروحيّة الحقيقيّة” (مذكور في ربيع الإيمان في روسيا، ص. 144). ويقول القدّيس أغناطيوس بريانتشانينوف: “على الأب الروحيّ أن يسدي نصائح. ولا تفرض النصيحة اتّباعها مهما كلّف الأمر. يمكنك اتّباعها أو عدم التقيّد بها. لا يتحمّل الذي ينصح مسؤوليّة نصيحته، إن كان أعطاها بمخافة اللَّه وتواضع، وليس بمبادرته الشخصيّة، بل استجابة لطلب الذي يسأله. وكذلك مَن حصل على نصيحة، لا يرتبط بها، بل يحافظ على حرّيّة التمييز التي فيه” (المدخل إلى تقليد كنيسة الشرق النسكيّة، 1978، ص. 72). ويقول الشيخ بايسيوس: “جاهد قدر المستطاع لكي يكون أبوك الروحيّ إنسانًا روحيًّا ذا فضائل وأن يكون عمليًّا أكثر منه معلّمًا. لا بدّ للقبطان من أن يكون عمل كبحّار عاديّ، كيلا يفرض على الآخرين كلّ المعلومات الرهبانيّة التي استقاها من الكتب بدون ممارستها. ولتكون حياته بسيطة من دون اهتمامات دنيويّة، ولا يسعى وراء مصالح غير خير النفس الآتية إليه وصالح أمّنا الكنيسة”.
يتابع المطران سمعان قائلاً: “واجب الأب الروحيّ الحقيقيّ وصاحب الخبرة أن يوجّه قلب أبنائه الروحيّين إلى شخص الربّ وليس شخصه. التعلّق بالشخص، إن كان آتيًا من الأب الروحيّ أو من أبنائه من دون رفضه ذلك هو مرض ويشكّل خطرًا كبيرًا لكليهما”. ويقول الأسقف كاليستوس (وير) متكلّمًا على علاقة الأب بابنه أنّ عليها أن تكون دومًا ثلاثيّة الأطراف، حيث اللَّه هو الطرف الثالث… ليس الأب الروحيّ نوعًا من القاضي الذي يكتفي بالأمر والنهي، بل هو دليل، مرشد ورفيق طريق. الأب الروحيّ الحقيقيّ هو الروح القدس. مهمّة الأب الروحيّ أن يساعد فقط على قراءة الحياة على ضوء الإنجيل وعمل الروح القدس.
ويقول الأسقف كاليستوس أيضًا: “واجب الأب الروحيّ ألاّ يهدم حرّيّة ابنه، بل أن يساعده لكي يعرف نفسه. فلا يقمع شخصيّته، بل يعطيه ما يلزمه لاكتشاف نفسه ومعرفة حقيقة أمره… لا يفرض آراءه الشخصيّة بل يدعو ابنه إلى إيجاد طريقه الخاصّ… باختصار هو حارس على باب اللَّه، ومهمّته أن يجعل النفوس تسير في سبيل اللَّه وليس في سبيله الخاصّ”. مَن يفعل باسمه الخاصّ يفعل من أجل مجده. يعرض ذاته والذين يسمعونه كذبيحة إلى الشيطان. يقول القدّيس أغناطيوس بريانتشانينوف الروسيّ: “مَن يعمل باسم الربّ يعمل من أجل مجد الربّ. فيحقّق خلاصه وخلاص رفيقه على يد الربّ، المخلّص الوحيد. الخطر الأعظم أن نُسلم عبدًا للَّه فتيًّا إلى عبد للبشر (1كورنثوس 7: 23) بجعله يتبع مشيئة إنسان ساقطة بدل مشيئة اللَّه الكلّيّة القداسة”. على الابن الروحيّ الانتباه إذًا ألاّ يعتبر الأب الروحيّ مَن يقرّر عنه ويعطي تعليمات في كلّ نواحي حياته. لا يوجد أيّ شيء آليّ في العلاقة بين الأب والابن. على الأب أن يساعد الإنسان على اتّخاذ القرار بنفسه، ويوجّهه إلى الطرائق التي تجعله يولد في اللَّه والنموّ الروحيّ. ليس الأب صاحب “وصفات” لكلّ شيء يخصّ ابنه، إذ إنّ فعل ذلك يقزّمه.
يجب ألاّ توجد أبدًا أيّة علاقة عاطفيّة إنسانيّة بين الأب والابن. ينهي الأب الصالح ابنه عن التعلّق به عاطفيًّا، ويبعده عن كلّ شيء يمكن أن يخفي شعوريّة مريضة تنسجها الأهواء.
طاعة الأب الروحيّ
يتكلّم كثيرون على الطاعة الواجبة للأب الروحيّ. إن كانت العلاقة مبنيّة على ثقة متبادلة، وإن كان يتحلّى الأب الروحيّ بالتواضع والمحبّة، لا بدّ من طاعته إن كان ما يطلبه يوافق سبل الإيمان والتقليد وتعليم الآباء. إن طلب شيئًا خارج هذه الأمور أو مخالفًا لها لا بدّ من الابتعاد عنه واللجوء إلى أب آخر، علمًا أنّ الأب الروحيّ لا يفرض شيئًا على ابنه الروحيّ، بل يساعده فقط بالمحبّة والثقة التي بينهما.
يجب التمييز في هذا الصدد بين الطاعة التي على الراهب المتدرّب أن يضعها مع أبيه الروحيّ. يكون بذلك يختار بملء إرادته أن يتخلّى عن إرادته بغية سلوك طريق الزهد والحياة الروحيّة. لا يُطلب من الذين في العالم مثل هذه الطاعة، وعلى أبيهم الروحيّ أن يتعاطى معهم بغير الأسلوب الذي يستعمله مع تلاميذه الرهبان، محترمًا حرّيّتهم ومرشدهم إلى القبول الطوعيّ بما يدلّهم عليه.
يؤكّد العديد من كبار الآباء على ضرورة طاعة الأب الروحيّ مهما فعل. يتكلّم هؤلاء عادة على الطاعة الواجبة للرهبان. يقول مثلاً سمعان اللاهوتيّ الجديد: “امتنع كلّيًّا عن معاندة أبيك حتّى إن رأيته يزني أو يسكر أو يتصرّف تصرّفًا شاذًا… اعتبر أنّك مسؤول عن كلّ ما ترى من أفعاله” (المواعظ التعليميّة 18). شجّعت مثل هذه الأقوال، في كثير من الأحيان، السكوت عن أخطاء فاضحة. وهي تناقض كلّيًّا ما يقوله القدّيس باسيليوس الكبير في إلزام الطاعة فقط في ما هو مطابق الكتاب المقدّس، إذ كان يوصي رهبانه بتأنيب رؤساء الأديرة إن خطئوا.
ويقول كاهن روسيّ معاصر آخر (الأب أرتيمي (فلاديميروف)): “من الأهمّيّة بمكان أن يفهم المبتدئ أنّ الطاعة الحقيقيّة هي لمشيئة اللَّه وحدها. شيء رهيب أن يعتبر مبتدئ أو مهتد إلى المسيحيّة أنّ عليه طاعة حتّى النزوات الإنسانيّة عند معرّفه. يولّد هذا الواقع عند المعرّف أو رئيس الدير أو رئيسة الدير شعورًا بالاكتفاء بالذات. ومثل هذا الشعور يفسدهم. فيصيرون كحاكم أوحد له سلطة لا متناهية على فلاّحيه. يقول القدّيس نكتاريوس من دير أوبتينا، إنّ على المرء أن يطيع بكرامة. وأعتقد أنّه كان يعني أنّه علينا التمييز بين مشيئة اللَّه والهوى البشريّ، وأن نقاوم الأهواء الإنسانيّة الساقطة. ولا أن نثور ضدّ كلّ سلطان، بل أن نكون منتبهين في التمييز بين الخضوع للنزوات البشريّة وإتمام وصايا اللَّه” (مذكور في “روسيا بعد الشيوعيّة”، ستيفين هيدليه، ص. 522).
ويقول كاهن روسيّ آخر: “ليس الكاهن ملاكًا، بل إنسانًا عاديًّا. طلب الطاعة الكاملة له شيء مخيف يوازي الانتحار الروحيّ. تكمن الطاعة في المسيحيّة أوّلاً في سماع الحقيقة المعلنة في الوعظ واتّباعها حسب السبيل الذي تختاره حرّيّتنا” (المرجع عينه، ص. 422).
ما العمل في حال عدم وجود أب روحيّ حقيقيّ؟
وجود أب روحيّ يتّسم بالصفات التي ذكرنا أمر نادر للغاية. من هنا على مَن يسعى وراء إرشاد روحيّ، أن يقبل تواضعًا مَن يجده من الإخوة الساعين إلى الكمال والقداسة رغم خطاياهم، وأن يترافقا الطريق. وإن لم يوجد أب روحيّ قدير أو سالك سبل القداسة، يوصي الآباء باللجوء إلى الكتاب المقدّس وأقوال الآباء والفيلوكاليا بخاصّة والأدب النسكيّ بعامّة الذي يعلّم محاربة الأهواء واكتساب الفضائل، كما العيش المحبّ في شركة جماعة الإخوة المؤمنين المجاهدين. فيصير اللقاء المحبّ مع الإخوة، في الليتورجيا وقبلها وبعدها، مختبرًا للحياة المسيحيّة، يعلّم الالتصاق باللَّه والإخوة معًا.
يقول كاهن روسيّ معاصر: “السعي وراء أب روحيّ (ستارتس) هو من بين أمراض أيّامنا. إنّه يدلّ على فقدان الثقة باللَّه. على مَن يفتّش عن علامة أو إشارة ما من المسيح المخلّص أن ينظر بدل ذلك إلى داخله. إن نظرنا إلى ذواتنا، نرى طبيعتنا التي تعكس الثالوث القدّوس. مهما سقط الإنسان يبقى فيه شيء من المدى الروحيّ، ويمكنه أن يعود إلى اللَّه انطلاقًا من هذا المدى كشخص يعرف أنّه مدين لوجوده إلى الخالق. من المهمّ أن نفهم ذلك”.
الأبوّة الروحيّة والعلاج النفسيّ
يمكن القول إنّ سبل العلاج الروحيّ والنفسيّ تتّجه إلى بذل الذات، أي الزهد، أو إلى انشراح الذات في مختلف إمكانيّاته. وبما أنّ هذه السبل تبتغي الوصول إلى الأهداف ذاتها، يمكن اعتبار الزهد موجودًا على طرف نصف دائرة والمذاهب المُتعيّة على الطرف الآخر. يمقت الزاهد عددًا لا بأس به من الملذّات بغية الوصول إلى اللَّه. يسمح له هذا الابتعاد بتكريس ذاته سعيًا وراء مثاليّات يعتبرها أسمى من الملذّات، كالتأمّل بالطبيعة، وتنمية أفكار معيّنة، والسعي وراء أهداف اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو علميّة أو فنّيّة. يلغي الزهد كلّ ما هو ثانويّ بالنسبة إلى الهدف المنشود. أمّا الموقف الساعي وراء تنمية النزعات الشخصيّة أو المواهب، فيسلك طريقًا مختلفًا يرنو إلى تحقيق أهداف مختلفة، بموجب جدول أوليّات مرتبط فقط بالحدود التي يفرضها الوقت أو المال أو سهولة الوصول إلى الموارد اللازمة… يعتبر الإنسان نفسه حديقة تنمو فيها ثمار كثيرة، تساهم جميعها في حيويّة وجمال كلّ ما فيها. فقط حدود المال أو الوقت أو مقتضيات المجتمع تفرض اتّخاذ قرارات صعبة، وتمنع ملاحقة النموّ في الاتّجاهات، فتجعل من الضروريّ وضع أولويّات، ما يرجعنا إلى الزهد، لكن بطريقة أخرى. يتّجه المعالجون النفسانيّون والمرافقون الروحيّون، على اختلاف انتمائهم العقائديّ، نحو الوصول إلى اتّفاق. تقتضي المسيرة الروحيّة التحرّر من النزاعات الباطنيّة كيلا تقف في وجه مسعى مَن يفتّش عن طريق. ويقف القصور العاطفيّ والصدمات النفسيّة والتشوّش العصبيّ عائقًا أمام السعي الروحيّ، ويجيّشون بعض قوى الإنسان فيلهونه عن السعي الروحيّ، وأحيانًا يمنعونه منه كلّيًّا. هنا يمكن أن يأتي دور المعالج النفسيّ للوصول إلى عيش متحرّر من المعوقات الكبيرة، فيسمح للمرء بأن يدخل في شركة مباشرة مع الحياة. تفترض مثل هذه الشركة أن يتصالح المرء مع انفعالاته، بخاصّة التي يعتبرها سلبيّة: القلق والغضب والشعور بالذنب والتدمير الذاتيّ، والرغبات المنحرفة أو التي يصعب قمعها… هذا ما يدعوه الآباء الروحيّون التحرّر من عبوديّة الأحاسيس. ويمكن للعلاج النفسيّ أن يساعد على التخلّص منها. ليس العلاج النفسيّ والمرافقة الروحيّة متناقضين، بل متكاملين. لذلك وجب أن يتفاهم “المعالجون”” كي يستفيد “المريض” (نفسيًّا وروحيًّا). يعرف الآباء أنّ الأهواء، إن لم تعالج، توصل إلى حالات مرضيّة. وتذكر سيرة القدّيس ثيوذوسيوس أنّه أنشأ مصحًّا لمعالجة النسّاك الذين أوصلهم انحرافهم في الزهد إلى أمراض عقليّة. يعتبر الآباء، لعدم وجود معالجات نفسيّة في أيّامهم، أنّ كلّ الانحرافات يمكن علاجها بواسطة الإرشاد الروحيّ، وإلاّ اعتُبر المرض أمرًا يائسًا. أمّا الآن، فيضطرّ الآباء الروحيّون إلى أن يرسلوا المريض إلى عناية المحلّل النفسانيّ، عندما يلزم الأمر. قال أحد محلّلي النفس المسيحيّين، متوجّهًا إلى أب روحيّ: “إنّ دوري هو أن أجعل الناس أصحّاء. أمّا دورك فأن تجعل منهم قدّيسين”. ويلخّص ألان ومادلين دويك، وهما معالجان نفسيّان أرثوذكسيّان في مجلّة العلّيقة المشتعلة (عدد 15، ص. 69 إلى81) خبرتهما في بعض العبارات الكتابيّة أو الآبائيّة، أهمّها:
1) “العين هي سراج الجسد. إن كانت عينك صحيحة يكون جسدك في النور”. فالعين تشير إلى ضرورة اليقظة والوعي السليم.
2) “فليكن النعم نعم واللا لا، لأنّ كلّ شيء آخر هو من الشرّير”، التي تشير إلى رفض الغشّ والكلام البطّال الذي يلهينا عن واقعنا الحقيقيّ ويجعلنا نرفض كلّ ما يزعجنا.
3) “صنع اللَّه كلّ شيء من أجل خلاصنا”، و”كلّ شيء هو لخير الذين يحبّون اللَّه”. إذًا بالثقة باللَّه والاقتناع بمحبّته، نسترجع تفاؤلنا بالحياة ونقاوم الشرّ.
4) “مَن يرى خطيئته أعظم ممَّن يقيم الموتى”. لا بدّ من معرفة الذات كأوّل خطوة نحو الشفاء.
5) “يوجد فرح أعظم لخاطىء يتوب من 99 بارّ يتمجّدون”. ضرورة استعمال إرادتنا لكي “نعود” إلى الآب، كما فعل الابن الشاطر.
6) “هذه هي طريق الراهب: أن يقع، فيقوم، ثمّ يقع فيقوم”. أي ضرورة الصبر والمثابرة.
7) “سيعرفون أنّكم تلاميذي إن أحببتم بعضكم بعضًا”. ضرورة المحبّة التي تفوق كلّ الفضائل وتلدها.
8) “بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئًا”. صاحب العلاج الحقيقيّ هو اللَّه، مهما كانت مهارات البشر. بواسطة هذه الأقوال، تلخّص الأسس التي يجب أن ترعى العلاجين النفسيّ والروحيّ، إذ توجد أمراض جسديّة ونفسيّة، وأمراض روحيّة، ويجب أن تُعالج جميعًا بتعاون بين الأب الروحيّ والمعالج النفسانيّ.
الخلاصة
ليست الصحّة العقليّة شرط الحياة الروحيّة. ولا تهدف الحياة الروحيّة إلى انشراح الشخص الإنسانيّ، بل تفتح له الطريق ليتّجه نحو اللَّه. وكلّ ما يسهّل هذا الأمر بدون المسّ بحرّيّة الإنسان. قال أحد المعالجين النفسيّين: “هدف التحليل النفسيّ أن يجعل الإنسان يدخل في صلة. إن كانت هذه الصلة في المجال الروحيّ، فلا دخل لنا بها”. بل علينا أن نعلم أنّ “الإنسان لن يجد الراحة في أيّ طريق يسلكها في هذا العالم قبل أن يكون قد اقترب من الرجاء الذي في اللَّه، لأنّه لا يمكن للقلب أن يصل إلى السلام في وسط الأتعاب والصعوبات إن لم يكن وصل إلى هذا الرجاء” (إسحق السريانيّ، المقالات النسكيّة). هذا هو الرجاء الذي يفوق كلّ رجاء. إذًا هدف الأبوّة الروحيّة الوحيد هو الإرشاد إلى الطريق المؤدّي إلى اللَّه، والتدريب على الجهاد الروحيّ ومحاربة الأهواء والمساعدة على عيش حياة شركة مع اللَّه والبشر. وهذا الهدف ينطبق على كلّ مَن يتعاطى التوجيه الروحيّ والإرشاد، مهما كان وضعه الكنسيّ. بكلمة واحدة مهمـّة المرشد الروحـيّ أن يذكّرنا بمتطلّبات الخـلاص. يقول أحد كبار السارتس الروس، القدّيس ثيوفانّس الحبيس: “مَن هو الذي لم يسمع كلامًا على الخلاص؟ لكنّ الأمر لا يتعلّق بالكلام، إذ تنقصنا الهمّة للعمل من أجل خلاصنا. نودّ أن نحصل عليه والبقاء بهدوء على فراشنا، معتقـدين أنّ الخلاص سيأتي إلينا وحده. إن كنتم تعانون مثـل هـذا المـرض، اعلـموا أنّ طـريق الشفـاء هـو أن تـمتلئوا نشاطًا لتحقيق خلاصكم، من دون أن تحاسبوا على جهـدكم. إذ ذاك ستـجدون أنّ خلاصكم قد أتى إليكم. المهمّ أن تتـخلّوا عــن ذواتــكم… وتعتادوا العيش في حضرة اللَّه، وأن تتصرّفوا… كما يليق به… سلّموا ذواتكم إلى الـربّ وسيـدلّكم على الطريق ويملؤكم من حقّه وحياته. زيدوه محـبّة، وعنـدما تتّحدون به في هذه المحبّة، فكّروا به أكثر من حركة زفيركم” (مقتطفات من رسائله). على الأب الروحيّ والمرشد أن يرافقنا في هذا الطريق، ويمّحي.
مجلة النور
العدد الأول 2017