النكهة الشاميّة

الأب جورج مسّوح Saturday June 24, 2017 193

دع الأديان وعقائدها وتعاليمها جانبًا حين تريد التحدّث عن تصرّفات أتباعها في التاريخ. فهؤلاء جميعهم، بصرف النظر عمّا تقوله النصوص المقدّسة والتراث الدينيّ لكلّ منها، متساوون في البرّ أو في الإثم. ومعظمهم إنّما يُخضعون نصوصهم الدينيّة لخدمة أطماعهم ومصالحهم وأهوائهم، إلى حدّ جعل الخير شرًّا والشرّ خيرًا.

لا تُبنى تصرّفات المؤمنين، وبخاصّة في الشأنين السياسيّ والاجتماعيّ، على القواعد الراسخة لما تقوله نصوصهم، سلبيّة كانت أم إيجابيّة، بل تُبنى على ما تقتضيه مصالح القائمين على البلاد والعباد. فأيّ قراءة دينيّة أو فقهيّة للنصوص لا يمكنها أن تدّعي الحياد لأنّها مرغمة، في غالب الأحيان، على أن تأخذ بالاعتبار رغبات الحكام وميولهم قبل إصدار الفتاوى والفصل ما بين الحلال والحرام.

القراءة الدينيّة للنصوص ليست قراءة شاملة، بل هي قراءة انتقائيّة لا تأخذ بالاعتبار الوجوه المتعدّدة لتفسير أيّ نصّ من حيث المسوّغات والحيثيّات والسياقات… فمعظم الراغبين بدعم آرائهم بالنصّ الدينيّ إنّما يذهبون إلى كتبهم وتراثهم المدوّن كي ينتقوا منها ما يعطيهم حججًا إضافيّة لدعم موقفهم المسبق، وأن يهملوا ما يمكن أن يكون مناقضًا لرأيهم. هم، إذًا، لا يبحثون عمّا تقوله لهم نصوصهم الدينيّة بوجوهها كافّة، بل يبحثون فقط عمّا يُشبع أهواءهم وميولهم، أو ما يرضي حكّامهم وأولياء نعمتهم.

تتغيّر الأحكام الدينيّة والنظرة إليها، حتّى ضمن المذهب الواحد، مع تغيّر الأزمنة والدول والظروف. الثابت الوحيد هو العقائد والعبادات، أمّا ما تبقّى فليس ثابتًا ولا جوهريًّا وقابلاً للتعديل. فإذا أخذنا، على سبيل المثال، “الحروب الصليبيّة” التي اعتبرتها الكنيسة اللاتينيّة حروبًا مقدّسة، وبرّرت شرعيّتها بالاستناد إلى الكتاب المقدّس والتراث الدينيّ المسيحيّ، باتت تعتبرها اليوم خطأ تاريخيًّا يستوجب الاعتذار عنه لدى المسلمين…

من هنا نعيد التأكيد على أنّ المسيحيّة ليست واحدة في التجربة التاريخيّة كذلك الإسلام ليس واحدًا. لذلك يمكننا الحديث عن خبرة تاريخيّة يمتاز بها المسلمون والمسيحيّون من أهل الشام عن سواهم من المسلمين والمسيحيّين، لاعتبارات عديدة:

  • بلاد الشام شهدت ولادة المسيحيّة، ولها جذور ضاربة في عمق الوجدان الشاميّ. والمسيحيّة الشاميّة أصولها، في معظمها، عربيّة وآراميّة (وسريانيّة وأشوريّة)، كانت تسود في مدنها الكبرى الثقافة اليونانيّة، الثقافة السائدة في ذلك العصر بسبب سيطرة الإمبراطوريّة البيزنطيّة. هذا التنوّع الثقافيّ، مع وجود العنصر العربيّ، وانتقال الخلافة إلى دمشق مع الدولة الأمويّة، ونمط العيش الشاميّ المختلف عن النمط السائد في الجزيرة كلّها ساعدت على قيام علاقات إسلاميّة مسيحيّة مختلفة عن سواها من الدول والمناطق الأخرى.
  • بلاد الشام تختلف عن بلاد الجزيرة العربيّة، وبخاصّة منطقة الحجاز، مهد الإسلام، حيث كان الوجود المسيحيّ ضعيفًا تسيطر عليه بعض الفرق المتفرّقة التي تفتقد الثقافة التي تحلّى بها أهل الشام على اختلاف مذاهبهم، مع حضور يهوديّ طاغٍ كان الإسلام يميّزه بعض الشيء عن نظرته إلى المسيحيّين، أو النصارى بلغة الإسلام.
  • بلاد الشام هي البلاد التي شهدت أهمّ نهضة إسلاميّة وعربيّة على مرّ العصور، إذ انطلقت منها أهمّ حركة ترجمة قام بمعظمها مسيحيّون، وتمّ فيها نقل العلوم والفلسفة من اليونانيّة والفارسيّة والهنديّة إلى اللغة العربيّة، ما جعل العرب والمسلمين يتقدّمون على سواهم بالعلوم والمعرفة. كان الحضور المسيحيّ، آنذاك، ذات جدوى للدولة الإسلاميّة، وهذا أضفى نوعًا من النكهة الشاميّة في العلاقات ما بين المسلمين والمسيحيّين.
  • لم ينشئ المسيحيّون الشاميّون، إبّان ثلاثة عشر قرنًا من الحكم الإسلاميّ، دولاً خاصّة بهم، ومعظمهم، وبخاصّة أبناء المدن، لم يحارب إلى جانب الغزاة، وبخاصّة الإفرنج، ضدّ الدولة الإسلاميّة. لذلك يسعنا القول بخصوصيّة العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة في بلاد الشام.

هذه بعض المشاهدات التي سمحت لنا بأن نقول إنّ الإسلام الشاميّ يختلف عن سواه، كما أنّ المسيحيّة الأنطاكيّة (الشاميّة) تختلف عن سواها. لذلك لا يمكن القياس على سوء العلاقات، أو حسنها، بين المسلمين والمسيحيّين في بقعة جغرافيّة معيّنة وتعميمها، على كلّ بقاع الأرض. هذه هي الشام، وهذه روحها الحقيقيّة، ولن يقضى عليها.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،24 حزيران 2017

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share