شريعة المحبّة وشرعة حقوق الإنسان

الأب جورج مسّوح Monday July 31, 2017 206

نشأت ثقافة “حقوق الإنسان” في أوروبّا عصر النهضة، عصر الأنوار. وسرعان ما لاقت هذه الثقافة قبولاً وتبنّيًا في مجتمع معظمه كان مسيحيًّا وممارسًا للإيمان. ولا أحد ينكر أنّ “حقوق الإنسان” تستقي مبادئها من الفكر المسيحيّ، ولا تتناقض معه جوهريًّا. أمّا أهل الديانات الأخرى، فقد وجدوا نقاطًا عدّة في “حقوق الإنسان” تتناقض وشرائعهم الإلهيّة. وهذا ليس حال المسيحيّة التي منها خرجت “حقوق الإنسان” إلى العالم.

من البدهيّ القول بأنّ المسيحيّة تعتبر أنّ الحرّيّة ليست الحقّ الأساس من حقوق الإنسان وحسب، بل هي ما يميّز الإنسان عن سواه من باقي المخلوقات. فاللَّه خلق الإنسان على صورته ومثاله (تكوين 1: 26)، أي خلقه حرًّا، عاقلاً، ناطقًا، وفق ما أجمع عليه تراثنا الكنسيّ. من هنا أيضًا تنبع المساواة بين البشر جميعًا. كلّهم، إلى أيّ عرق أو جنس أو دين أو مذهب انتموا، ومن دون أيّ استثناء هم متساوون بالكرامة أمام اللَّه. كلّ منهم هو “نظيرٌ لأخيه في الخلق”.

لا ريب في أنّ المسيحيّة، وهي ديانة التجسّد الإلهيّ، تكرّم الحياة الإنسانيّة، وتولي الاهتمام بالإنسان الأولويّة المطلقة. ولا غرو في أنّ الوصيّة الوحيدة التي أودعها الربّ يسوع تلاميذه إنّما هي وصيّة “المحبّة”. الحقّ الأساس من “حقوق الإنسان” في المسيحيّة هو حقّ الإنسان بأن يُحَبّ، بأن يكون محبوبًا. المحبّة، مسيحيًّا، فيها يكمن كمال الإيمان المسيحيّ، ولكن، أيضًا، كمال ما للإنسان من حقّ على أخيه الإنسان من محبّة.

لا ريب، أيضًا، في أنّ الإنجيل يفوق بما لا يقاس ما تقوله “شرعة حقوق الإنسان”. فالمحبّة أسمى من الحقوق البشريّة: “فلس الأرملة” (مرقس 12: ٤١- ٤٤)؛ ومن الحقوق الاجتماعيّة: “مَن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا. مَن سخّرك ميلاً، فاذهب معه ميلين” (متّى 5: ٤٠- ٤٤)؛ ومن الحقوق الوطنيّة: “أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم” (متّى 5: 44- 45)…

المحبّة، في المسيحيّة، أسمى من كلّ القيم التي يدعو إليها “الضمير البشريّ”، ومن “شرعة حقوق الإنسان”، ومن كلّ قوانين الدنيا قديمًا وحديثًا. ولا يجانب الصواب إذا قلنا إنّ المسيحيّة تفوق كلّ المعتقدات الدينيّة الأخرى في إعلائها شأن المحبّة على أيّ شأن آخر. لكنّ السؤال يبقى: هل يأخذ المسيحيّون شريعة المحبّة في الاعتبار حين يتعاملون مع الناس؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نسأل إذا كان مسيحيّو بلادنا يتوقون حقًّا إلى ممارسة ما هو أدنى منزلةً من “شريعة المحبّة”؟ هل هم متهيّئون لاحترام “شرعة حقوق الإنسان”؟ نسأل هذه الأسئلة، لأنّنا نحيا، مسلمين ومسيحيّين، في وطن واحد، في دولة لديها دستور وضعيّ ورد فيه أنّ “لبنان عضو مؤسّس وعامل في منظمّة الأمم المتّحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالميّ لحقوق الإنسان. وتجسّد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقوق والمجالات من دون استثناء” (مقدّمة الدستور اللبنانيّ، الفقرة ب).

من البدهيّ، إذًا، ألاّ يتّفق منطق الدولة بالضرورة ومنطق المحبّة المسيحيّة. فالدولة تحكم وتقاصص وتسجن وتحارب، فيما المسيحيّة تسامح وتغفر وتعفو ولا تبادل الشرّ بالشرّ. الدولة تنطق بالعدل، فيما المسيحيّة تنطق بالمحبّة. لكنّ الدولة، إذا كانت لا تستطيع الخضوع لمنطق المحبّة، فهي قادرة على التزام “الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان” في كلّ ما تقوم به من أعمال. ولا بدّ من التذكير، هنا، بأنّ أيّ مخالفة للإعلان العالميّ إنّما هي مخالفة دستوريّة تستوجب المساءلة والمحاسبة.

“الإعلان العالميّ” هو الحدّ الأدنى المطلوب التزامه من المسيحيّ. مع ذلك، نجد أنّ كثيرين من المسيحيّين يهملون مسألة احترام “حقوق الإنسان” متذرّعين بقضايا كبرى، وطنيّة أو أمنيّة أو سياسيّة أو طائفيّة… فيما المطلوب منهم أن يكونوا قد تجاوزوا “الإعلان العالميّ”، وارتفعوا إلى مكان أسمى من حيث التزامهم المسيحيّة وفق مقتضيات الإنجيل.

إذا صدق اللبنانيّون في سعيهم إلى بناء “دولة مدنيّة”، فكلامهم لا يستقيم من دون احترام الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، واتّخاذه معيارًا للسلوك الوطنيّ والمجتمعيّ والسياسيّ والقضائيّ. شريعة هذه الدولة المنشودة، وإن ظلّت دون شريعة المحبّة، فهي الأقرب إلى هذه الشريعة.

 

مجلة النور، العدد الخامس 2017، ص 226-227

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share