ألغت الحكومة التونسيّة، بطلب من الرئيس التونسيّ الباجي قائد السبسي، الموانع القانونيّة التي كانت تحول دون زواج التونسيّات بغير مسلمين. وكان ثمّة مرسوم سابق يفرض على غير المسلمين الراغبين بالزواج من التونسيات المسلمات أن يُشهروا إسلامهم أمام مفتي الجمهوريّة لإتمام العقد. ويأتي هذا الإلغاء في الوقت الذي تجري فيه أيضًا مناقشة مشروع المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة. وقد لاقى هذا القرار الحكوميّ استنكارًا شديدًا في أوساط المحافظين والفاعليّات الدينيّة، إذ اعتبروا دعوة الرئيس التونسيّ “تدخّلاً في ثوابت لا مجال لتبديلها”، و”يُعدّ خرقها من المحرّمات”.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ القرار الحكوميّ قرار سياسيّ لا يستند إلى مرجعيّة فقهيّة معتَبرة. من البديهيّ، إذًا، أن يلاقي الاعتراض والاستنكار من المرجعيّات الفقهيّة، حتّى المعتدلة والوسطيّة منها، الذين يعتبرون أنّ الزواج شأن دينيّ، وليس شأنًا سياسيًّا. فمع ترحيبنا بهذا القرار الجريء يجدر القول إنّه يبقى ضعيفًا ما لم يواكبه اجتهاد فقهيّ تعتمده مرجعيّة إسلاميّة كبرى كي لا يظلّ خاضعًا للأهواء السياسيّة السائدة في البلاد. حتّى السبسي نفسه أقرّ بصعوبة إلإصلاح الدينيّ إذ قال: “لدينا دستور لدولة مدنيّة، لكنّ المعروف أنّ شعبنا مسلم، ولن نسير في إصلاحات تصدم مشاعر الشعب التونسيّ”.
منذ نشأة الإسلام إلى يومنا الحاضر يُجمع الفقهاء كافّة على القول إنّ القرآن الكريم قد أباح زواج المسلم من كتابيّة، يهوديّة أو مسيحيّة، وهي على دينها إذ لا يشترط إسلامها، وذلك استنادًا إلى الآية القرآنيّة الكريمة التي تقرّر: “الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا أَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍأحل لكم الطيبات ” (المائدة 5، 5). وكلّهم يتّفق على عدم جواز زواج المسلمة من كتابيّ.
يستند كلّ العلماء، بمَن فيهم الوسطيّون، في تحريمهم زواج المسلمة من كتابيّ إلى الآيتين القرآنيّتين اللتين تقرّران: “لاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ” (البقرة 2، 221)؛ “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ” (الممتحنة 60، 10).
هاتان الآيتان تحرّمان صراحةً زواج المسلمة من مشرك أو من كافر، ولا ذكر صريحًا في القرآن الكريم كلّه بمنع زواجها من الكتابيّ إطلاقًا أو بإباحة هذا النمط من الزواج. ولكنّ الشيخ يوسف القرضاوي، على سبيل المثال، بعد أن يستشهد هاتين الآيتين، يعترف بهذا الأمر، قائلاً إنّه “لم يرد نصّ باستثناء أهل الكتاب من هذا الحكم، فالحرمة مجمع عليها بين المسلمين”. هذا القول يعني، إذًا، أنّ القرضاوي يعتبر أهل الكتاب “كفّارًا” و”مشركين”، وهم بحاجة إلى استثناء في النصّ، وإلاّ اعُتبروا مشمولين بأحكام الكفّار والمشركين. ولا يتوانى القرضاوي، مع اعترافه بأنّ أصل اليهوديّة والنصرانيّة “دينان سماويّان”، من أن يتهمّ أبناء هذين الدينين بتحريفهما، ولذلك وجب خضوعهم لأحكام الكفار والمشركين، وبخاصّة في موضوع زواجهم من مسلمات.
أوردنا موقف القرضاوي من مسألة الزواج المختلط ليس لأنّه موقف فرديّ، بل هو نموذج من الموقف الكلاسيكيّ السائد لدى الفقهاء المسلمين كافّة منذ نشأة الإسلام إلى يومنا الحاضر. ما نحن بحاجة إليه، في مجتمعاتنا التي يهيمن عليها فائض من التديّن، إنّما هو اجتهادات دينيّة إصلاحيّة تتبنّاها المرجعيّات الإسلاميّة المعتدّ بها. عدا ذلك ستبقى الإصلاحات الدينيّة خاضعة للمزاج السياسيّ الحاكم، وعرضةً للاهتزاز مع أيّ تغيّرات في الأهواء السياسيّة. ما زالت الطريق طويلة… لكن هل هذا فعلاً أوّل الغيث؟
الأب جورج مسّوح
“النهار”،16 أيلول 2017