الأب بسّام ناصيف
تضاربٌ في المعنى
التعريف الأوّل لكلمة “حُبّ” في موقع غوغلُ هو كالآتي: “شعور بالانجذاب والإعجاب نحو شخص ما، أو شيء ما، وقد يُنظر إليه على أنّه كيمياء متبادلة بين اثنين…” وبناء على هذا التعريف تستهدف وسائلُ التواصل المعاصرة (Facebook، WhatsApp ، Twitter ، Instagram ، Snapchat ، YouTube…إلخ.) الجيلَ الشبابيّ لإقناعه باختبار الحبّ الذي يعاش على غرار الإنتاج السينمائيّ في هوليوود، والذي يصوّر لحظات ملحميّة من الحبّ الدراميّ. تحاول الميديا أن تقنع العالم بأنّ هذا النوع من الحبّ الرومانسيّ، إذا ابتغاه الشباب اليوم، يجلب لهم مقدارًا لا يُثَمَّنُ من السعادة الشخصيّة وتحقيق الذات. ولكنّ الكثيرين يدركون، بعد خبرة، أنّ الحياة اليوميّة، الزوجيّة والعائليّة، هي ليست كما تصوّرها معظم وسائل التواصل. فهل يُبنى بيتٌ أو يتعانق زوجان ويثبت زواج، من دون تعب وبذل وصبر ومسامحة ونكران للذات؟ إنّ هذا التضارب بين ما يُقال عن الحبّ في بعض المواقع الرقميّة وما يُعاش في الواقع اليوميّ، يجعل الإنسان المعاصر في حالة من التشوّش الفكريّ والاضطراب النفسيّ، إذ يرى تناقضات بين الصورة الرقميّة والواقع المعاش: في الأولى، انجذاب وإعجاب وكيمياء وفرديّة وامتلاكٌ للآخر. وفي الثّاني، عطاءٌ كامل، وغصب للنفس بالصبر، وموت من أجل حياة الآخر…
المسيحيّة نهج حياة لكلّ زمن
في المسيحيّة يُعَرَّفُ الحبُّ، بحمل الصليب ونكران الذات وبذل النفس بفرح من أجل الآخر: “هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد…” (يوحنا 3: 16). والمسيحيّ مدعوّ لعيش هذه المحبّة. فالإنسان كائن مخلوق على صورة الله، أي على صورة محبّة الله، لأنّ “الله محبة” (1 يوحنا 4: 8). وهذه الصورة تعني أيضًا أنّ للإنسان الحرّيّةَ والإرادةَ الشخصيّة على تحقيق هذه الصورة في حياته وعمله. الله محبّة، والمحبّة العظمى “أَن يبذُلَ الإِنسان نفسه في سبيل أَحبَّائه” (يوحنا 15: 13).
يختبر الزوج والزوجة هذه المحبّة التي لا تطلب ما لنفسها، في أعمق أبعادها، كطريقة للحياة والوجود. بهذا المعنى، ليس الحبّ الزوجيّ مجرّد علاقة عاطفيّة، ولكنّه في المقام الأوّل مَسْعًى “سماويًا” يَستند إلى نهج الحياة الأرثوذكسيّة. هذا النهج يتطلّب عيش سرّ الحبّ بحسب الإيمان المسيحيّ، بضبط النفس والصبر (1 كور ٩: ٢٥)، بالتدرّب النسكيّ، بإفراغ الذات من الأنا (فيليبي 2: 7)، بالتمييز، بالنباهة، بالصبر، بالغفران المتبادل… ويترافق هذا التدرّب مع الصلاة وممارسة سرّ التوبة والاعتراف، سواءٌ كأفراد أو كمتزوجين. هذا النهج هو الخبرة الروحيّة والشفائيّة التي نقلها إلينا الآباء القدّيسون. إن هذا النهج مستمدّ من النماذج الحيّة الحاضرة في كلّ عصر منذ تجسّد الربّ يسوع (أنظر السنكسار). وعيش هذا النهج يعطي الشابّ الحرّيّة الحقيقيّة من طغيان الرغبات، فيحلّق كالنّسر وينمو كالأرز! هذا هو النهج الذي التزم به شباب الحركة في أربعينيّات القرن الماضي، فحلّقوا وأسّسوا بيوتًا مباركة وأديارًا مقدّسة. فمن أين نبدأ إذًا؟
العودة إلى الجذور
نبدأ من حياة الوالدين في المنزل. إنّ قداسة الوالدين هي أفضل طريقة لتربية الأولاد والشباب في الربّ. إذا أظهر الوالدان الحبّ، بالتواصل الفعّال بينهما، فإنّ أولادهما يشعرون بالأمان (القدّيس بورفيريوس الكافسوكاليفي). البيت هو مدرسة الحبّ الحقيقيّ ومشغل التضحيّة. كلّ شيء يبدأ منه. العودة إلى حياتنا المسيحيّة في البيت، حياة الإيمان والصلاة والصوم وإفراغ الذات من الأنا، حياة المصالحة وتخطي الأنانية، هذه العودة هي الضمانة الأولى الفاعلة لمواجهة الحرب على العائلة ووسائلها في الميديا. “فالأُسرَةُ النَّاجِحَةُ هِي الضَّمانُ الأَساسُ لِتَربِيَةِ أَطفالِنَا وَتَهذيبِ أَحْدَاثِنَا، وَتَوعِيَةِ شَبابِنَا، وعيشِ خُبراتِ الشَّرِكَةِ المسيحيَّةِ فيما بينها…” (البطريرك يوحنّا العاشر، 2013).