أحد استقامة الرأي

غسّان الحج عبيد Thursday March 14, 2019 844

الأحدُ الأوّل من الصَّوم

أحدُ استقامةِ الرأي

   إتَّخذ الأحدُ الأوّلُ من الصَّوم هذه التسميةَ لكونِه الأحَد الذي نَذكرُ فيه انتصار الأيقونة على مُحاربيها، والّذي اعتُبِر انتصارًا للعقيدة الأرثوذكسية، أي لاستقامة الرأي.

في كنيستنا، عندما يُقام أحدُهم أُسقفًا، يكون عليه أن يتلوَ اعترافاتٍ طويلةً وصارمةً يُقِرُّ فيها بالتزامِه استقامةَ الرأي، وفيها يتعهّد أن يبقى، طِيلةَ خدمتِهِ الأُسقفيّة، ثابتًا على هذه الإستقامةِ وحريزًا، يَصُونُها بأمانةٍ وصلابةٍ ويَصُونُ بها نفسَه، وبها يرعى كنيسة الله التي أقامَهُ الروّحُ القدسُ عليها أسقفًا. ولذلك، عندما يترأّس الأسقفُ خدمة القدّاس الإلهيّ، يَدعون له “من أجل أن يَهَبَهُ الربُّ يسوع لكنيستِه المقدَّسة بسلامٍ، صحيحًا، مُكرَّمًا، مُعافًى، مَديدَ الأيّام، قاطِعًا باستقامةٍ كلمة حقّه”.

هذا، يا إخوة، يعني، في ما يعنيه، الكثير. وأوّل ما يعنيه، بل وأهمُّه، أنّ كنيستنا هي كنيسة استقامة الرأي؛ والمسيحيّون قاطبةً يعترفون لها بهذا لكونها، باعترافهم، الوحيدةَ التي حافظت، سَحابَةَ التاريخ المسيحيّ، ومازالت، على الإيمان الرّسوليّ وحفظته غَيرَ مُنثَلِم.

إنّ هذا الواقع ينبغي له أن يشكِّل لنا، بطبيعة الحال، مدعاة افتخار وشكر. ولكن، إخوتي، هذا وحده لا يكفي. فما قيمةُ الإيمان، ولو قويمًا، إذا لم يكن إيمانًا مَعيُوشًا؟ لا يكفي أن نُسَطِّر الإيمان حبرًا على ورق. الحبرُ وحدَه لا يُنشِئُ حياةً. القلبُ المتخشِّعُ والمتواضع والذي يَنبُض على إيقاع الإيمان القويم هو الذي يُنشئُ حياةً. إن إيمانًا لا تُترجمه حياتُنا هو إيمان مَيت (راجع يعقوب 2: 14-18). ولا يَقولَنَّ أحدٌ إنّ هذا مستحيل. لا، ليست الإستقامةُ فنَّ المستحيل، بل هي فنّ الممكن. وما قوافلُ الشّهداء والقدّيسين الذين، سَحابةَ عصور وعصور، قاسَوا صُنوف الإضطهادات ورَوَّوا تربة الكنيسة بدمائهِمُ الزَّكيّة – وقد ذَكرَهُم كاتب الرّسالة إلى العبرانيّين في تِلاوة اليوم- إلّا خيرُ دليل على ذلك.

طبعًا، الإستقامةُ مُكلِفةٌ. هذه حقيقةٌ لا يَرقى إليها شكٌّ، لا سيّما في زمنٍ كالذي نحن فيه، حيث اختلالُ الموازين والمقاييس، وغياب المعايير، وانهيار سُلّم القِيَم، الخُلُقيّة وغيرها (وهذا بَيِّنٌ في التعاطي مع مفاهيم كثيرة ليس آخِرَها مفهوم المال، أو السلطة، أو الجنس (الجسَد)، أو الدِّين، أو السّياسة، أو الآخر، أو الوطن والأرض، أو الإنتماء… وغيرها كثير).

في ظلِّ واقع كالذي نعيشه تبدو الاستقامة مُكلفة، وكذلك الثبات فيها، إذ دونَ الثبات فيها تجاربُ كثيرةٌ وإغراءات قاتلة. إن سلوك الطُّرق الملتوية والسُّبلِ المتعرّجة – وما أكثرها في أيّامنا- لأهون علينا، وبكثير، من سُلوك  السُّبلِ القويمة. ذلك أنّ الأولى (المتعرّجة) تسمح لنا بالتّمايل مع الرّيح كيفما مالَت، بينما تستدعي الثانية (القويمة) منّا الصُّمود في وجه الرّياح ومقاوَمَتها. وهذا الصّمود صعبٌ لأن كُلفَتَه باهظة: يكلّف صمودًا أمام التجارب والمحن؛ يكلّف صبرًا وطول أناة؛ يكلّف تواضعًا وانسحاقًا شديدَين؛ يكلّف تواريًا وتضحياتِ عظيمةً وإخلاءَ ذات.

في كلّ حال، ليس هذا الواقع حكرًا على زماننا وحدَه. فهذه هي أزمنة الناس مُذ كان النّاسُ وكانت الأزمنة. أمّا نحن، وقد خرجنا من جرن المعموديّة، أي مُذِ اغتسلنا ببياض المسيح وطُهره، فقد أقسَمْنا إنّنا نرفض الشيطان وكلّ أعماله ونُوافق المسيح. ومنذُئذٍ حالفْنا المسيحَ وأقسَمْنا إنّه هُو طريقُنا ولن يكون لنا طريقٌ سِواه.

 

بقلم غسّان الحج عبيد

175 Shares
175 Shares
Tweet
Share175