خواطر حول حريق كاتدرائيّة نوتردام – باريس

نجيب كوتيّا Thursday April 18, 2019 2616

 

تفاعل الناس مع حريق نوتردام المأساويّ تفاعلاً كثيفًا سواء أكان ذلك على قنوات الأخبار أم على صفحات التواصل الاجتماعيّ. وتراوحَتِ التفاعلات بين الحزن الجماعيّ، والتعاطف، والذهول، والصلاة من جهة، وبين الشماتة، وتحميل شعب فرنسا الذي قلّ إيمانه المسؤوليّة من جهة أخرى. كما رسمت بعض المداخلات هذا الحريق كدرس من الله ليعود الشعب الفرنسيّ عن تيهانه وضلاله في غياهب العلمانيّة. كما كان هنالك محاولاتٌ مؤسفة لوضع اللوم على النازحين المسلمين في فرنسا وعلى كثرة المثليّة في البلد.

إلّا أنّه من الواضح أنّ أغلبيّة الفرنسيّين وسكّان العالم الذين تابعوا هذا الحريق كانوا على مستوى المسؤوليّة والنضج أمام حدث جسيم كهذا. فهذه الكنيسة هي أثرٌ فرنسيٌّ وعالميٌّ يجمع لمدة ألفيّة تقريبًا تاريخ فرنسا وفنّ فرنسا وعظمة الهندسة المعماريّة في صرح دينيّ سياحيّ عالميّ. قد يقول البعض إنّه مبنًى من حجر وإنّ البشر هم الأهمّ. ولكنّنا أحيانًا ننسى أنّ صرحًا كهذا يتخطّى الحجر، ويعكس نتاج الأجيال البشريّة التي عمّرته فيكون بذلك امتدادًا لها نحو الأجيال القادمة. وهنا لا بدّ أن نذكر تدمير الطالبان لصروحٍ أثريّة، وأن نشير إلى ما دمّرته الحرب المؤلمة في سوريا من كنائس وجوامع وآثار تنضح بالبشريّة وتختصر تاريخًا حيًّا كاملاً. وأن نشدّد على الجرح البشريّ الذي سبّبه هذا التدمير.

ولكن يجب التوقّف عند حدثين جميلين ملفتين للنظر وأخذ بعض العبر منهما.

الأوّل هو التعاطف الهائل والواضح من عددٍ كبيرٍ الملحدين مع هذا الحدث بالرغم من أن المبنى دينيّ مسيحيّ بامتياز. ولم تقتصر مشاركة هؤلاء الأشخاص على الاستنكار والتعاطف، بل تخطّى ذلك إلى مساهماتٍ ماديّةٍ فعّالة بلغت مئات الملايين من الدولارات، في مدّة قلّت عن أربع وعشرين ساعة. بالنسبة إليّ فإنّ هذا يظهر أنّ الخير موجود في قلوب بشر نظلمهم ونَصِفُهُمْ بأنَّهم علمانيّونَ قاسونَ نسوا قواعد الإيمان وتاهوا. ذكّرني هذا التعاطف الجميل بالمبالغ الماليّة الكبيرة التي جمعها الناس في بريطانيا في مدّة قصيرة لمساعدة ضحايا التسونامي في أندونيسيا. قد نكون إيمانيًّا على نقيض هؤلاء الناس، ولكن لا شكّ أنّنا نشاركهم إنسانيّتهم في عمقها ونتّفق معهم في تقديرهم للنتاج البشريّ الثمين الذي تمثّله نوتردام. من هنا فإنه من الواجب أن نتعلّم التعالي عن الفروقات الفكرية والعقائديّة من أجل بشر ضعفاء هم في أمسّ الحاجة إلى اتّحادنا ومساعدتنا.

الحدث الثاني هو بيان المطارنة الأرثوذكس في فرنسا حول حريق نوتردام. لم يقتصر البيان على التعاضد الإنسانيّ فقط، وهذا أقل ما يمكن أن يتضمّنه أيّ بيان حول الموضوع، ولكنّه استعمل لغة تعاضد إيمانيّة حميمة مع الكنيسة الكاثوليكيّة في زمن يسلك فيه البعض من الأرثوذكس مسلك التقوقع، ويكفّرون الكنائس الأخرى بحجّة الحفاظ على الإيمان. لقد أتى بيان المطارنة الأرثوذكس ليذكّرنا بنفحات باريسيّة عطرة اعتدناها في الحركة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. فالبيان يأسف لحصول الكارثة نهار الاثنين المقدّس (مع العلم أنّه ليس الاثنين المقدّس في الرزنامة الشرقيّة). ويتّحد الأساقفة مع إخوتهم الفرنسيّين باعتبارهم معنيّين في الصميم بما حدث. ويذكّر البيان بشكل رائع بتلمّس الحوار بين الأرثوذكس والكاثوليك. كما أنّح يرشح بالاعتراف الجميل بالماضي المشترك قبل الانشقاق فيعيد إلى الذاكرة الاحتفال بأسقف باريس الشهيد “ديونيسيوس الأريوباجي”، وهو من شهداء ما قبل الانشقاق وقد أُطلق اسمه في القرن الماضي على معهد اللاهوت الأرثوذكسيّ الذي كان فلاديمير لوسكي من أشهر أساتذته. ويتآخى البيان مع أسقف باريس الكاثوليكيّ وكهنته.

إنّ أحداثًا كهذه تبرهن أنّ ما يجمع الناس هو أكبر بكثير ممّا يفرّقهم. ولا بدّ من الرجاء الحارّ في إنسانيّة يصل إليها الله بطرقه التي نعجز أحيانًا عن فهمها، فيمنحها حبّه وصلاحه ويُحييها بقوة الحبّ القياميّ، كما تظهر أيقونة القيامة المسيح وهو قابض على آدم وحوّاء من معصميهما مقيمهما حيَّين مِنَ القَبْر.

 

702 Shares
702 Shares
Tweet
Share702