الأب الياس مرقص، التماعات أنطاكيّة .!. (٥)

الأرشمندريت توما (بيطار) رئيس دير القديس سلوان الآثوسي Sunday June 9, 2019 219

“ليس الخلاص في المعرفة الذّهنيّة

بل في بذل الكيان لله”.

الأب الياس مرقص

في مقدّمة كتاب “السّلّم إلى الله”، المنقول إلى العربيّة في دير الحرف، استهلّ النّاقل كلامه بالقول: “هذا الكتاب ليس للمطالعة”. وفي مقدّمة كتاب “أصول الحياة الرّوحيّة”، إنّ هذه السّطور هي قبل كلّ شيء قطعة حياة. هذا الكلام هو في أساس هذه المقالة هنا، أيضًا، وإلّا شرد القارئ عن روحها!.

الخطر الأكبر على الكنيسة أن تتحوَّل، بمؤمنيها وخدّامها، إلى كنيسة أهواء!. هذا، إن حصل، يجعل التّركيز على الشّكل دون المضمون؛ ويعوِّض عن الوهن في الرّوح بالتّشدّد في ما للمظهر!. فيُصار إلى المبالغة في طلب ما للحرف – والحرف يقتل – وتسييب ما للرّوح، وإلى تأكيد ما لأصول (التّيبيكون) الطّقوس والتّغاضي عن روح العبادة!. هذا يُعتبر، في المناخ الحاصل، أنّه هو النّهضة!. وتتحوّل الأرثوذكسيّة، على أرض الواقع، إلى أرثوبراكسيّة: عمليًّا، استقامة الأداء وفق الأصول في مقابل استقامة الرّأي والتّمجيد وفق التّراث الحيّ (في الرّوح والحقّ).

الجهاد الشّخصيّ للأب الياس، ومنحى الأبوّة الرّوحيّة، لديه، تركّز في وعي أوهان النّفس ومقاومة أهوائها في فعل استئسار لكلّ فكر (هوى) إلى طاعة المسيح (2 كورنثوس 10: 5). لم يكن الأب الياس بلا هوى. كانت له تجاربه، لا شكّ في ذلك!. اهتمامه برعاية النّفوس جعله عرضة لما يتأتّى عن الاختلاط بالنّاس من تجارب!. في العادة، يُصوَّر الآباء الرّوحيّون كمَن لا يُتعاطى ما فيهم من عيوب، كما لو كانوا بلا خطيئة، أو يعثر الآخرون بزلّاتهم، وبخاصّة الضّعفاء. الأب الياس كان إنسانًا… على رقيّ طبعًا!. لكنّه لم يكن بمثابة “سوبر مان”!. أتى كسواه من بيئة منفتحة، ثقافيّة، اجتماعيّة، ملتزمة كنسيًّا وأخلاقيًّا، لكن دون تزمّت، وعلى جانب كبير من الاهتمام الفنّيّ والأدبيّ والعلميّ. كان في حدود السّابعة والثّلاثين عندما ترهّب. إذًا، حمل إرثًا إنسانيًّا ذا معالم واضحة وأبعاد محدّدة. طبعًا، الرّهبنة جعلته يُقلع عمّا يمكن أن يكون، في السّلوك العامّ، نافرًا، غير لائق بالرّهبنة. لكن مواقفه وطبيعة علاقاته الأساسيّة بالنّاس، في شخصيّته، كانت، بعامّة، قد ارتسمت، قبل مجيئه إلى الدّير. على أنّ جهاد الأب الياس ووعيه الرّهبانيّين جعلا بعض ما كان عاديًّا في سيرته السّابقة للرّهبنة، يستدعي جهدًا وتعبًا ليس بقليل في حياته الرّوحيّة ذات المدى الرّهبانيّ المستجد ليبلّغه إلى ملئه!.

من ذلك علاقته بالمرأة، بعامّة.

كانت المرأة، قبل الدّير، لديه، أختًا ورفيقة وأنثى!. في الدّير، لمّا يعتزل الأب الياس بالكامل وينسك!. بالعكس زادته الحياة الرّهبانيّة حنانًا ورأفة ورفقًا واهتمامًا برعاية النّفوس!. البعد الرّعائيّ لرهبانيّته تبلور!. موقفه العميق من المرأة لم يتغيّر!. الأخوّة للمرأة استمرّت لديه بكلّ تأكيد. أمّا الرّفقة فلم يكن لها، وضْعًا، محلّ من الإعراب. ولكن، كيف تحفظ الأخوّة وتنعتق من أثر أنوثة المرأة عليك؟. هذا ليس بالأمر السّهل الميسّر لأنّ التّاريخ والجغرافيا فيك أنّ الدّنيا رجل وامرأة!.أنت بإزاء حالة غير مستقرّة نفذت فيك بالتّنشئة، وهي قائمة فيك باطّراد ولا يمكنك أن تواجهها، رهبانيًّا، إلّا بالصّحو المبين، والجهاد الدّاخليّ الثّابت، والاتّضاع والدّموع لتنقّحها على خير ما يمكنك!. النّساء اللّواتي بتن يعتمدن على الأب الياس، في بثّ همومهنّ، زدن كثيرًا، من خلال الاعتراف والاسترشاد، وقلّما ردّ الأب الياس أحدًا!. هذا لم يكن من دون دمٍ ثمنًا!.

ثمّ، لا يخفى أنّ للمرأة، في هذا الشّرق، شجونها التّاريخيّة: مجروحة، مقموعة، مستغلَّة، بعامّة، يتراوح موقعها بين أمومة، كثيرًا ما يُبخَس حقّها، وكونها “مُستخدَمة” وجسدًا!. هذا أثّر، عميقًا، في وجدانها، وجعلها، بالأكثر، تستمرّ، في التّاريخ، على ردّات الفعل، ينقصها، أبدًا، الشّعور بالأمان، وتبقى بحاجة لأن تتّكئ على الرّجل بتواتر!. الأخوّة الحقّ، بين الرّجل والمرأة، كوجه من وجوه العلاقة بينهما، تكاد يكون مغيّبة عندنا. المسيحيّة، في هذا الصّدد، تركت بصمتها، بالحري، على الأمومة. أمّا الأخوّة فاستبانت، بمرور الزّمن، شبه محالة أو إسميّة!. أهذا من السّقوط؟. إلى حدّ ما!. ولكن، هذا من الوهن في الرّوح، بكلّ تأكيد، ما جعل الطّابع الجسدانفسانيّ يطغى الطّابع الرّوحيّ في العلاقة بين الرّجل والمرأة، بعامّة، كما جعل المرأة، في المجتمع الرّجليّ، عنوانًا للظّلم، إلى حدّ ليس بقليل!.

لم يكن للأب الياس، بإزاء ذلك، في روحه، أن يحوّل نظره في غير اتّجاه!.

في بيئة محافظة ومنفتحة ومثقّفة ومطعّمة بالإنجيل، في آن، وضمن عائلة مميَّزة قلّما اعترتها عقدة أفضليّة الذّكور على الإناث، ضمّت أربع أولاد وثلاث بنات، تهيّأت للأب الياس فرصة تكوين نظرة والدّخول في علاقة بالمرأة، كأخت، أكثر من الكثيرين، من أترابه، هنا وثمّة. وإذا أخذنا في الاعتبار رصانته وميله إلى الإلهيّات، منذ الشّبابيّة المبكّرة، فإنّه لأمر تلقائيّ، أن يكون غريبًا، في رهبانيّته، عن النّظر إلى المرأة كتهديد لمسراه، كما هو حال مَن يعتبرون المرأة من الأخطار الّتي تهدّد، جدّيًّا، سعي الرّهبنة الرّجليّة. وهذا لم يكن قليلًا بالأمس، ولا هو قليل اليوم. الأب الياس، في وجدانه، لم يكن من هذه الطّينة!. لذا، لم يعرف التّحفّظ من المرأة مسرًى، في المبدأ!. كان، في داخله، على حرّيّة، ومن دون عقد، في تعامله معها!. الصّورة الأكمل لديه لم تكن في عزلة الرّجل، رهبانيًّا، عن المرأة، ولا المرأة عن الرّجل، بل في نقاوة يقتنيها كلّ منهما تجاه الآخر، بالوعي والحرص وسلامة المسرى الرّوحيّ والمحبّة الإنجيليّة… ما يفضي إلى أخوّة في الرّوح بينهما!. هذا أدنى إلى الواقع الفردوسيّ المشتهى بين النّاس!. بالنّسبة للأكثرين هذا كان حلم يقظة!. بالنّسبة للأب الياس هذا كان وعد الحياة الجديدة، هنا والآن!. “وأنتم جميعًا إخوة”!. لذا، إلى تلك الأرض أبحر!. الكبار يسيرون وحيدين أوّلًا، متى احتدّت قناعاتهم في الرّوح، فيهم، وبعد ذلك يتبع مَن يتبع!. الحياة المسيحيّة شهادة أوّلًا!.

كثيرات تحلّقن حوله والتصقن به!. الحنان يستدعي الطّيور الجريحة!. والأب الياس كان على حنان كبير!. هذا كان خطِرًا، والأب الياس، ببصيرته، كان يعرف ذلك!. رغم ذلك، لم يشأ إلّا أن يخوض المخاطر!. كيف تُخضع العواطف الإنسانيّة فيك للحنان الإلهيّ؟. التّجربة أن تجمح المشاعر البشريّة عندك، لتستبين كأنّها الحلّ لهموم الآخرين، وهي ليست كذلك!. كيف كان الأب الياس يحفظ التّوازن بين الإلهيّات والإنسانيّات في روحه؟. هنا بيت القصيد في الجهاد الرّوحيّ للرّجل!. قلّما تحدّث الأب الياس في الأمر!. فقط بعض كلمات كانت تخرج منه تشير إلى حجم معاناته!. والجواب، كما استبان لي من علاقتي به كان ثلاثيًّا: الاتّضاع والانكسار أمام الله، والصّلاة، والدّموع!. وكما استمرّ إيليّا النّبيّ أربعين يومًا بأكلة من ملاك الرّبّ، استمرّ الأب الياس بتلك الأكلة الثّلاثيّة إلى أن بلغ مشارف أرض الميعاد، أورشليم السّماويّة!.

في هذا الّذي خاض فيه، قلّما كان مفهومًا، أو حتّى مقبولًا، لا من الأبعدين فقط، بل من الأقربين أيضًا، ولكن هذه كانت، بالنّسبة إليه، شهادة!. والمسيحيّة شهادة أوّلًا!. كيف يكون قويمًا، في الحقّ، وربّه، إن لم يستمرّ قويمًا، في قناعاته، حيال نفسه، وهذا لديه وعد الحياة الجديدة، كما أسبقنا؟!.

وحاول الأب الياس، تجسيدًا لقناعاته، في هذا الصّدد، أن يقتبل أخوات في ديره، وفق ترتيب مكانيّ معيّن. هذا استمرّ ردحًا، لكنّه أثار لغطًا وانتقادًا. قلّة كانت على موجة الأب الياس. ما أتاه لم يكن للجميع. وبعد حين توقّف!. لكنّه بقي حيًّا ينبض في قلب الأب الياس!. النّضج نصيب القلّة!. الأكمل ليس للجميع!. لكنّك تنتهي في وضع تكتفي به بمراعاة ضعف الضّعفاء!. “لئلّا نعثرهم”، على قولة الرّبّ يسوع، ما يجعل الرّائدين، في روحهم، غرباء، في كلّ حين!. النّسور تعاني على رؤوس الجبال لكنّها تتجدّد!. “أعطني هذا الغريب”!.

نجح الأب الياس أم فشل في مسعاه؟. هذا يحكم فيه ربّك!. لا تعرف الكلمة إلى أين تصل، أو متى تثمر؟. المهمّ أنّ الأب الياس قال كلمته، من خوضه في حقّ الله، ومشى، والباقي لله ومَن يسمعون!. والكبار لنتعلّم منهم!.

وتستمرّ القصّة…

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 9 حزيران 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share