الخطيئة حُمقٌ!. لذا، المسيحيّة الحقّ، للعالم، خُبْلٌ!. ما الخُبل؟. فسادُ العقل!. لمّا سمع أقرباء يسوع خرجوا ليُمسكوه لأنّهم قالوا إنّه مختلّ (مرقص 3: 21)!. الشّيء نفسه قيل في الرّسول المصطفى بولس (أعمال 26: 24)!. هذه هي “جهالةُ” الله الأحكم من حكمة هذا الدّهر، وهذا هو خُبل الله الأعقل من عُقّال هذا العالم!. حكّام هذا الدّهر، وهم في العادة حكماء، من غير الله، ماكرون، فطنتهم مكرٌ، لذا همّهم التّسلّط، أمّا ربّك، المستخدِم نفسه لك، فهو الآخذ الحكماء بمكرهم!. تلك حكمته!. أحبّة الرّبّ يسوع يتّخذون حكمة “الخُبل الإلهيّ”، سيرةً، قليلًا أو كثيرًا، وفق ما بلغوه من مرقاةٍ في سلّم الفضائل!. يفرحون به وبه يستترون!. “خير لي أن أكون صعلوكًا في بيت إلهي من أن أسكن في مساكن الخطأة” (مزمور)!. والخطأة قائمون حيث ليس إلهي ولا فكر إلهي!. هنا يقيم الغنى وهناك يقيم الفقر!. هنا العظمة وهناك التّواري!. هنا الرّاحة وهناك التّعب!. هنا السّيادة وهناك العبوديّة!. “أقمع نفسي وأستعبدها…”!. أحيا ما هناك هنا!. لذا، كان التّعقّل هنا وهناك الخُبْلُ!.
صعب أن تحفظ الأمانة لربّك ولا تكون على شيء من التّباله!.
هكذا يكون الأخصّاء وهكذا كان الأب الياس!. “قد متّم وحياتكم مستترة في الله”!. يظنّ الأكثرون أنّهم عرفوه لأنّه قلّما تغيّر في تصرّفه معهم عمّا عرفوه، ولا يعلمون ما هو، بعد أن ترهّب!. ليس الأهمّ، يا صاحِ، ماذا تقرأ بل كيف تقرأ!. أراد الأب الياس أن يتعلّم أبجديّةً جديدة لم يكن يعرفها!. أما خرج القدّيس أرسانيوس الكبير من القصر إلى البرّيّة للسّبب عينه؟. هذه هي الّتي أخذ يتكلّمها ويقرأ بها كلّ شيء!. لكنّ الأب الياس دفع ثمن التّغرّب غاليًا!. كما يقرأك إلهك لا كما تقرأ أنت إلهك ونفسك والعالم!. والثّمن كان الفقر عن إرادة وإيثار التّعب والإقرار بالجهل بما لله!. “غبيّ أنا ولا معرفة عندي”!. ثمّ قَطْعُ المشيئة وقطع المشيئة، والصّبر والصّبر والصّبر دمًا!.
أعندك فكرة كم هو مكلف أن تقول إنّك لا تعرف أو أن تخرس، وأنت تعرف جيّدًا ما يسألونك عنه، لأنّك تطلب أن تَخفى وأن يقولوا فيك جاهلًا ولا يقول أحد فيك حسنًا ولا يمدحك، لتروض نفسك على التّواري وإفراغ الذّات؟!. هذا هو الجنون بعينه!. توجعك نفسك بادئ ذي بدء، وترضى وتتبنّى وتسأل العليّ أن يعينك!. تحتسي العلقم، مرّة بعد مرّة، وقلّما تجد عزاءً غير كلمة مولاك!.
يضغطك عقلك وحسّك، في هذا المسار، فتقبل أن تُهمَّش وأن تقعد في العتمة تنتظر، بصمت، خلاص إلهك!. “لماذا تقلقينني، يا نفسي؟ توكّلي على الله…”!. “كثيرون قاموا عليّ. كثيرون يقولون لنفسي: لا خلاص له بإلهه”!. ولا تجد لديك غير وعدك له وترضّض نفسك: “على كلمتك ألقي شبكتي”!. تصلّي، تسجد، تبتهل، تنتظر، تكدّك الأفكار!. نفسك تتعب!. حتّى متى؟!. تسكت!. لا تعرف إلى أين!. يُضنيك العطش في برّيّتك!. “أللّهمّ، بادر إلى معونتي، يا ربّ، أسرع إلى إغاثتي”!. تُسرّ، تتشوّف، تنادي، ليأتيك في نعمته، الآتي إليك أبدًا، من حيث لا تعلم!. كلّ ما في داخلك لحظة ذاك يصرخ ربّاه!. فيأتيك بسمك كثير، ملء شبكتك، أكثر من طاقتك، فتبكي ويختنق الصّوت فيك وتنزل على ركبتيك مهتزَّ الكيان، واعيًا، حتّى الوجع الشّديد، تفهك وعظمة إلهك: “اخرج، يا ربّ، من سفينتي لأنّي رجل خاطئ”!.
هكذا غار الأب الياس في الأتعاب، ودموعه تشهد، كما في لجّة، يومًا بعد يوم، أسبوعًا بعد أسبوع، شهرًا بعد شهر، سنة بعد سنة، ليل نهار!. جعل الموت حدّه، ولا حياة روحيّة، في العمق، إن لم تفعل!. اللّحظة ما قبل الأخيرة، في العادة، أقسى اللّحظات إذ يبلغ المجاهد الذّرى شعورًا كيانيًّا بضعفه ونفاذ صبره!. لكنّ اللّحظة تلك هي الأثمن، لأنّه إمّا أن يسلم نفسه أو يستسلم، لا خيار ثالث!. بصق الأب الياس دمًا ووهنت قواه ولمّا تخر روحه: “إنّي ولو سلكت وسط ظلال الموت لست أخشى شرًّا لأنّك أنت معي” (مزمور)!. لا سلامة حقّ إلّا بالتّسليم كلّ حين!. “في يديك أستودع روحي”!.
لك، يا صاحِ، تحدٍّ كبير في جنوحك إلى المزاح، أحيانًا، إن كنت تحبّ كالأب الياس أن تلعب!. بعضهم استأنس فكاهته ولمّا يلج إلى ما هو أعمق من الضّحك، ففاته وجه الأسى في ما هو فَكِهٌ!. وبعضهم استهضمه واستغرب!. وبعضهم استخفّ به، لطويّته غير النّقيّة!. وبعضهم أهانه لأنّه كان قاسيًا جاهلًا!. “أيّ راهب هو هذا؟!”!. سيّدة، ذات مرّة، ردّت على مزاحه، في وجهه: “بلا جعدنة”!. لمَن لا يألف الكلمة، تعني: “مش مهضوم، بلا طق حنك”!. فلم يُجبها بكلمة!. ارتسمت ابتسامة خفيفة على محيّاه، وأطرق!. لعلّه، في الرّوح، سُرّ!. لكنّه كإنسان شعر بالمهانة، وكأنّه لا حقّ له في أن يشعر كذلك!. متى يطأ عتبات اللّاهوى؟!. كيف يحوّل المهانة إلى مسرّة؟. امتصاص توتّرات النّفس صار، لدى الأب الياس، صِنعةً!. والتّوتّر يعني وجعًا!. هل يرتدّ عن المزاح؟. كلّا أبدًا. هذا شيء من تكوينه، وهذا شيء من متنفَّسه في لجّة الضّيقات!. ثمّ كان الأب الياس يعرف بالرّوح أنّ في المزاح تمويهًا جيّدًا!. شيئًا من تباله!. كان يتعاطى الأوجاع ليردّ الأوجاع!. أقصد بالأوجاع الأولى أوجاع النّفس، وبالأوجاع الثّانية أهواء النّفس!. على هذا النّحو، كان يبذل دمًا كلّ يوم ليأخذ روحًا!. أحب الغربة والغريب، لأنّه جعل نفسه، في القلب، غريبًا!.
مرّة، أوحي إليه، من أحد الأئمّة، بأن يتوارى، فلم يعد يستبين لا في الأحاديث ولا في الكتابة!. كأنّ مَن قال له ما قاله له، ذكّره، فوق ما كان يعرف، أنّ عليه أن يموت كلّ يوم!. نسكه الدّاخليّ، كان له منه موقف في غاية الجدّيّة!. كلّ شيء، في وعيه، كان برسم النّسك على رجاء المودّات!.
كلّ هذا جعله، في آن، رجل أوجاع، في حلّة فَكِهة، وشريكًا في أوجاع الآخرين، في حلاوة قلبه!. متنفَّسه، متى ضاق تنفّسه، كان دموعه!. يبكي على خطاياه بعنف، ويبكي في الصّلاة، على وقع كلمات ربّه، بصمت!. يبكي أوجاع الآخرين بنشيج، ويبكي على خطاياهم بتوسّل واسترحام!. هذا كلّه، قصده الأب الياس أن يكون في الخفاء، إلّا لمَن استرق النّظر إليه خفيةًـ أو صدف أن سمع نشيجه!. أمّا في النّاس وبين الجدّيّة في الموقف واللعب والمزاح لديه سحابة رقيقة!. ويمرّ التّباله، بقصد ومن دون قصد، هنا وثمّة، فلا تلاحظه إلّا إذا كنت إليه بروح ربّك!. أمّا هو فألف بعض التّباله سيرةً!.
حين تكون ذكيًّا وتروم الملء في اللّاهوت، يُضنيك ذكاؤك!. الطّاقات، لا أدري إن كان ممكنًا لها أن تموت، لكنّها، بكلّ تأكيد، قابلة لأن تتحوّل من مسارات بشريّة إلى مسارات روحيّة!. الأب الياس كان ذكيًّا جدًّا، لذا كان في عالمه مُضنَكًا جدًّا، وكان بحاجة إلى بدائل تعبيريّة مقبولة لذكائه!. في التّأليف، كتب وأجاد، وكذا في الاعتراف والاسترشاد، وكذا في الأحاديث!. لكنّ بعض ذكائه وجد له بذلك متنفَّسًا وليس كلّه!. اللّعب والمزاح واللّعب على الكلام، وما سوى ذلك، وظّف فيه بعضًا آخر من ذكائه، والباقي تكفّلت به دموعه كمَن يقدّم ذبيحة!. بعض التّباله، في ذلك كلّه، كان أدنى إلى الحاجة، لأنّه كان على دقّة في الفكرة والأداء!. دونك هذا المثل: ما هو الشّيء الأصفر الّذي يصفّر وهو معلَّق في السّقف؟. طرح الأب الياس “الحزّورة” بجدّيّة!. لم يعرف أحد الجواب!. “كعينا”!. “الجواب”، قال، “السّمكة”!. “ماذا؟”، “أجل، السّمكة”!. “كيف ذلك؟ كيف كانت صفراء؟”. “أنا دهنتها”!. “وكيف كانت معلَّقة في السّقف؟”. “أنا علّقتها”!. “وكيف كانت تصفّر؟”. “هذا من أجل جعل الحزّورة صعبة”!. ها! ها! ها!. الأب الياس لم يضحك!. فقط ابتسم!. لكنّ عينيه التمعتا!. نظرته كانت كنظرة ولد “رذيل”!. “الحزّورة” كانت بحاجة إلى مستوى من الذّكاء، لا سيّما القصد منها!. فيها سخرية!. وفكاهتها آتية من سخريتها وغرابتها!. وسامعها لا يعرف أن يستسيغها إذا كان عاديًّا!. إذا لم يكن فطنًا، لمحًا، فإنّ المضمون يفوته!. مَن تلقّت الرّسالة، يومذاك، كانت سيّدة جاءت لترى مَن يكون الأب الياس، الرّاهب المعروف!. توقّعت الجدّيّة وجاءت بجدّيّة!. أوّل ما سمعت “تنكيته” عثرت!. لم تفهم إلّا في ما بعد!. أدركت أنّ الجدّيّة في الحياة الرّوحيّة ليست في أن تحفظ وجهك مقطَّبًا، بل أن تحفظ قلبك يقظًا!. الباقي لا يعني بالضّرورة شيئًا!. ما في القلب يظهر في المحيّا أو لا يظهر، هذه مسألة أخرى!. المهمّ أن تعتاد على أن تكون عينك على الدّاخل!.
في التّباله شيء من التّظاهر. هذا ليس كذبًا بالمعنى المألوف بين النّاس، ولو كان المرء فيه لا يُظهر الأمر كما هو بل يطلب ما هو حقّ إلهيّ بالتّظاهر بأنّه فاعل أمرًا آخر، أو كأنّه لا يعرف وهو يعرف جيّدًا!. مثل ذلك سير الرّبّ يسوع، بعد قيامته، مع تلميذي عمواس وتظاهره بأنّه منطلق إلى مكان أبعد (لوقا 24)!. الأب الياس كان، أحيانًا، يتعاطى هذا الأمر بحرّيّة أبناء الله. لا أظنّه كذب مرّة ليخدع، بل كان يخفي ويقول ما هو حاصل للمنفعة أو احترامًا لشعور الآخرين أو لئلًا يجرح أحدًا!. دونك هذا المثل للتّندّر: الأب أغابيوس، في شيخوخته، كان يحبّ، مثلًا، أن يرافق الأب الياس في خروجه من الدّير، كما يتعلّق الأولاد بذويهم. فكان الأب الياس يقول له: قد يأتي السّفير اليوناني، يا أبانا، لزيارتنا!. تمرّن على اليونانيّة لتكلّمه هكذا بلغته!. فيضحك الأب أغابيوس ويضحك الأب الياس والحاضرون وتنقضي المسألة!. هذا في المسائل البسيطة. في المسائل الصّعبة كان يقول ما فيه منفعة للآخرين، ولو لم يكن أحيانًا صحيحًا تمامًا!. يقول عن هذا غير ما قاله له ذاك، ولذاك غير ما قاله له هذا، ليجمع حيث بذور الخلاف!. يصير المرء على صورة ما يُقال له، لا سيّما إذا كان المتكلّم حبيبًا!.
أمّا بعد، فما يبدو في التّظاهر أو التّباله على ازدواجيّة، فإن توسّم صاحبه البنيان، كان، على غرابته، نافعًا!. نيّة القلب تحكم في ما للظّاهر، والظّاهر لا يتحكّم إلّا بالّذين اعتادوا أن يحكموا بحسب الظّاهر!. والتّظاهر، كائنًا ما يكون، في إطار الشّريعة، لا بدّ منه، لأنّ مَن يطلب الحقّ في عالم كثرت فيه تعابير الباطل، محكومة عليه الاستعارة ليكون له أن يعبّر بالمألوفَ!. طبعًا، يختار ما يوافق وليس مؤذيًا، ولكن، تذهب أفهام الفهماء في مراقٍ، وأفهام الّذين لا يعلمون في غيرها!. هذا يأتي لأبناء الملكوت من غربة تنمو عن هذا العالم وتزداد، فيما تأتي، لأبناء هذا الدّهر، ممّا هو مألوف، وهم لا يفقهون!.
هكذا زاد تعاطي المألوف الأبَ الياس غربةً فوق غربة، توخّت، في الحقيقة، القربى من الحبيب والأحبّة، إلى تلك السّاعة الّتي جعل فيها نفسه بين الأرض والسّماء!. الأرض وراءه بالكامل، والسّيّد بإزائه بالكامل، ولسان حاله: “هأنذا أمة للرّبّ”!. كان قد أفرغ نفسه وزاده ربّه إفراغًا فوق إفراغ!. إذ ذاك، التحم بقولة الرّسول: “الآن، أُسكَب سكيبًا، ووقت انحلالي قد حضر… أخيرًا وُضع لي إكليل البِرّ الّذي يهبه… في ذلك اليوم، الرّبّ الدّيّان العادل… لجميع الّذين يحبّون ظهوره…” (2 تيموثاوس 4)!.
لتستمرّ القصّة!…
الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 8 أيلول 2019