الأب الياس مرقص التماعات أنطاكيّة .!. (٢٣)

الأرشمندريت توما (بيطار) رئيس دير القديس سلوان الآثوسي Sunday October 27, 2019 257

استراحة المسافر

كثيرًا ما سافرنا معًا. خارج البلاد وفي الدّاخل. خلال سنوات، بقينا في سفر بمعدّل مرّة في الشّهر. تحدّثت عن الغرض من ذلك في مقالات سابقة. هنا أتكلّم على: كيف كانت هذه الأسفار؟. في السّيّارة، كان الأب الياس يحفظ الهدوء. هذا بعامّة، إلّا إذا كان ثمّة لزوم للكلام. في هدوئه، كان يسرح في الصّلاة. كيف أعرف ذلك؟. كان، أحيانًا، يشير إلى ذلك. مثلًا، اليوم صلّيت صلاة يسوع كما لم أصلّها من زمان!. كان هادئًا، رزينًا، معادلًا لنفسه، قليل الإنفعال. لكنّه، متى انفعل كان بركانيًّا!. أو متى انفعل، انفعل بنشيج!. رغم ذلك، في السّيّارة، كان حاضرًا، واعيًا، منتبهًا. وإن طرحتُ عليه سؤالًا، أجابني. وإن كانت لي كلمة أقولها له سمعني. لم يُسكتني مرّة، حتّى لو قلتُ كلامًا في غير محلّه. مهذّب، لطيف، ودود. بئر عميقة. لا يُحرج أحدًا. يحترم النّاس، ولو مال إلى المزاح لا يجرح أحدًا. يَقْبل ما يُلقى عليه ولو كان تافهًا. ماذا كان يقول عن المتقدّم في النّاس، رئيسًا للدّير أو غير ذلك؟. الأوّل سلّة قمامة للآخرين!. هكذا، في الحقيقة، قدَّم نفسه: ماسح قيح!. إراحة النّاس من أتعابهم كانت تعني له الكثير، وكذا أن يُفرِّح القلوب ويُشجِّع الأكباد!.

في السّيّارة، علّمني حفظ الصّلاة. كان يحمل سواعية عبد الله شقير الصّغيرة. هذا جعلنا نقيم صلاة السَّحَر مقتضبة، بما تيسَّر، وكذا صلاة الغروب، قراءة وترتيلًا. لا يثقِّل على أحد في شيء، لكنّ الصّلاة لديه كانت تنفّسًا. لا يجعلك تشعر أنّها عبء عليك، بل تعزية حضور ربِّكَ!.

أحيانًا، خلال السّفر، كانت تطالعنا مفاجآت!. كيف كان يتصرّف؟. ما ردّات فعله؟. مرّة، كنت مسرعًا بعض الشّيء، لم يقل لي شيئًا. فجأة، توقّفت مركبة أمامنا. حاولت أن ألجم السّيّارة. دستُ الفرامل. لم أنجح في إيقافها تمامًا، فصدمتها قليلًا من الخلف. بدا منزعجًا. لم يقل شيئًا. حتى لم يوجّه لي كلمة توبيخ واحدة. كانت السّيّارة أمامنا للأجرة. بعد حوار سريع، مدّ الأب الياس يده إلى جيبه، وأخرج مالًا كافيًا أعطاه للسّائق، فرضي به، وانطلق وعاودنا الانطلاق. لم يقل شيئًا، بعد ذلك، لكنْ، قال صمتُه لي أكثر ممّا كان ليقوله لو تكلّم!.

مرّة أخرى، كانت الأيّام أيّام أحداث وخطف. كنّا مسافِرَين إلى الشّام. أوقفَنا حاجز، بعد شتورا، لجهة طريق دمشق. كُدتُ أن أُخطَف لأنّ أحد المسلَّحين ظنّني من حدث بيروت، وهو مهجَّر من هناك يرغب في الانتقام، فلمّا عرف أنّي من عاليه تركني، وتابعنا سيرنا باتّجاه الحدود اللّبنانيّة السّوريّة. بقي الأب الياس، خلال ذلك، حافظًا هدوءه وصلاته ورباطة جأشه. كان يعرف اضطرابي. شعوري اليوم أنّني نجوت ببركة وجوده، لأنّه سبق لي أن عرفت الرّجل، عند الحاجز، وكان صاحب ملحمة، في عبوري بمحلّه، وأنا متوجِّه إلى دار المطرانيّة في الحدث. لم يقل لي الأب الياس إلّا كلمات قليلة، ولزم هدوءه وصلاته. عرفتُ أنّه حملني بصلاته!. الوقت كان وقت سيادة شريعة الغاب، وكان ممكنًا أن أُخطَف لكوني مسيحيًّا وشابًّا!.

ومرّة أخرى، كنت والأب الياس، في طريقنا إلى اللّاذقيّة، ومنها إلى دمشق، للسّفر إلى إيطاليا واليونان بناء لدعوة. كانت الطّريق مقفرة. فما إن تجاوزنا مطار القليعات، حتّى رأينا في المروج، عن يميننا، مسلَّحًا يركض باتّجاهنا، وهو يصرخ: قفوا، قفوا!. فأسرعنا بزيادة!. وإذا بطلقات ناريّة تُسدَّد في اتّجاهنا!. لكنّنا نجونا بحمد الله ولم نُصَب بأذى!. في كلّ ذلك، لزم الأب الياس الهدوء والصّلاة، فيما جاشت في صدري مشاعر موجعة وأفكار هائمة!. تلك الرحلة إلى إيطاليا واليونان تمّت ببركة الله، وكانت مثمرة!. لم تثنِ المخاطر، كما بدا لي، الأب الياس، عن المواجهة، في كلّ حال، لأنّه كان يعي أنّ كلّ شيء في يد الله، وليس أيّ شيء خارج تدبيره. أنا كنت أعرف ذلك أيضًا، إلى ذلك الحين، لكن معرفته اختلفت. معرفتي كانت، بالأحرى، عقليّة، ومعرفته كيانيّة تحكيها هدأته ودمعته وصلاته!.

في إيطاليا، تسنّى لنا أن نحضر مؤتمرًا للفوكولاري في سانترو أونو، وهو مركز اللّقاءات الأوّل عندهم. شبّان وفتيات، بخاصّة، أتوا من كلّ مكان. همُّهم الحياة المشتركة في المسيح. المسيح في ما بيننا. المسيح في الوسط. المسيح جامعنا… يتعلّمون. يغنّون. يفرحون. يصلّون… لهم كتاباتهم. لهم نمطهم. لهم مفاهيمهم يطوّرونها لجهة المحبّة والسّلوك والحشمة واللّباس والرّزانة والفرح… فيهم نبض حياة… بالنّسبة للأب الياس، كان يرى فيهم عطشًا وتوقًا إلى الحياة الجديدة في المسيح، على طريقتهم. كانوا مرتبطين بعضهم بالبعض الآخر برباط رعائيّ شبابيّ أخّاذ. كان واضحًا، في المبدأ، وهم إلى الكنيسة الكاثوليكيّة، ولو استقطبوا العديدين، ممّن هم خارجها، أنّهم كانوا يسعون، في إطار انتظاميّة الكثلكة، إلى الخروج من حيِّز جفاف التّنظيم والتقليديّة الرّعائيّة، إلى حيّز الحيويّة الدّاخليّة الجذّابة، لا سيّما للشّباب، في إطار من الخلابة المحبّيّة والفرح النّاهد إلى الأعماق الرّوحيّة. كانوا يسعون إلى ترجمة الإنجيل لا إلى مقولات، بل إلى محبّة فاعلة في المسيح تشدّ الكبار والشّباب والصّغار إلى بعضهم البعض، فإلى واحد!. عاطفيّتهم البادية كانت راقية، على نكهة روحيّة بيّنة!.

الأب الياس يثمّن الالتماعات الإلهيّة، حيثما كانت، هنا أو هناك، داخل الكنيسة الأرثوذكسيّة أو خارجها، لدى المسيحيّين أو لدى غير المسيحيّين، سواء بسواء. لله شهود في كلّ مكان، والرّوح ينفخ حيث يشاء. أمّا المؤمن الحقّ، الباحث عن الحقّ، فيفرح بالحقّ حيثما تجلّى وكيفما تجلّى، على قولة الزّاهد المسلم، إبراهيم الأدهم: “المؤمن يفرح بالمؤمن حيثما كان”!. وحده مَن يفرح بما للحقّ، حيثما كان، يكون لله، أمّا مَن لا يفرح إلّا بما يظنّه لله في نفسه وجماعته، فليس لله، لأنّ ربّك أرحب من أن يحدّ نفسه ببعض أقوام دون سواهم، وإن حدّ نفسه بروحه في العالمين، وجعل للأرثوذكسيّة سلطان التّعليم، فإنّه يخاطب هؤلاء بما يعلمون وأولئك بما لا يعلمون!. ويشاؤك، بدءًا، أن تكون نظيره، على رحابة، تضمّ بها العباد كافّة إلى صدرك، ليتسنّى لك أن تنضمّ وإيّاهم إليه، كما من رحابة روحه، لفرحه وفرحك معًا!.

كان الأب الياس يرى الجمالات ويرى الضّعفات، في نفسه والنّاس، انطلاقًا من معاينة خطاياه بإزاء مراحم الله وعظائمه. كان يراها في كلّ النّاس. يرى الحلو ليتّضع ويتعلّم ويحدّث بعظائم الله ويشكر… ويرى الأَوهان ليرحم ويبكي ويسترحم، عسى المحبّة، محبّة الله، تشدّنا الواحد إلى الآخر، إن بانت معايبنا أمام عيوننا، لديه، وجمالات ألطافه، في طول أناته على السّالكين في الظّلمة وظلال الموت!. كان الأب الياس يبكي خلاص النّاس، الأقربين والأبعدين، لذا كان يبكي خطاياه بمرارة!. حبّه لله فالنّاس زاده معرفة بخطاياه، ومعرفتُه بخطاياه زادته حبًّا للنّاس فالله!. هكذا دارت عجلة روح الأب الياس إلى المنتهى!.

أرثوذكسيّة الأب الياس علّمته العمق والسّعة في الرّوح، ثمّ علّمته التّمييز!. فيها الحقّ الكبير لمَن يبحثون عن الحقّ، لا شكّ في ذلك، لكنّ الحقّ فيها ترجمته الاتّضاع الكبير في دموع تسيل بانسياب لا ما يعيقه، وهدوء لا ما يعكّره!. لذا، الآخر، لدى الأب الياس، يُبكي حتّى يعرف محبّة الله، ويُفرح مهما كانت علائم روح الله فيه طفيفة!. لم يكن الأب الياس يبحث عن نموذج بشريّ، لذا لم يُضْفِ على ما للنّاس هالة قدسيّة، بل كان يبحث عن المسيح إيقونةً في النّاس، يفرح بها، ويشكر الله عليها، مهما بدت تلك الإيقونة، فيهم، على طبقات من السُّخام!.

في اليونان، بعد إيطاليا، كانت لنا خبرة أخرى، فيها العمق والنّضج معًا. الأب القدّيس بائيسيوس استقبلنا بتواضع ومحبّة من خارج هذا العالم. والأب الأرشمندريت إميليانوس، سيمونوبترا، الّذي رقد منذ بعض الوقت، التقيناه في مرفأ الجبل. كان في طريقه إلى ديره. أخذنا معه. فرح بالأب الياس. لم يقل الكثير. فقط، وقف عنده. لاحظه!. بالأحرى، تبادلا الفرح، الواحد بالآخر!. وقفت بين الأب الياس، ذي العينين الغائرتين في الأعماق، والأب إميليانوس ذي عينيّ النّسر، يشاء لو يحوّل العالم كلّه إلى دير، ويشاء أن يخطف خراف ربّه قاطبة إلى حظيرة الحياة الرّهبانيّة. كلمة واحدة بقيت في ذاكرتي منه، وكنت، يومذاك، أبعد ما يكون عن مضمونها. هذه قالها للأب الياس في شأني: “خذ هذا الشّاب، واجعله راهبًا، وأعطه الإسكيم الكبير!”. هذا تحقّق بعد سنين بيد الأرشمندريت صوفروني سخاروف، الّذي ربطته بالأب إميليانوس علاقة وثيقة!. أمّا الأب الياس فلم يقل كلمة، ولا فاتحني بالموضوع. وعندما صرت بعد سنوات، راهبًا، فرح!. شعوري أنّه كان يعلم أنّي سأصل إلى هناك، ولكن، بعد حين!. هذا لأنّه كان يعلم، وقد علّمني، أنّ ما عليَّ أن أطلبه هو الملء، وما يجب أن أسعى إليه يجب أن أسعى إليه إلى الملء!. أصِل أو لا أصِل؟. هذا عند ربّك!. في العمل مقصّر بالكامل، أمّا في الشّوق، فإلى الكمال بالكامل!. هذا ما سعى إليه الأب الياس طوال سعيه!. تقلّب بين قولة “وجهَك يا ربّ أنا ألتمس”، وشعور موجع لا يفارقه عبّر عنه الرّسول المصطفى بالقولة: “مَن ينقذني من جسد الموت هذا”؟!. على هذه السّكّة وتلك سار إلى المنتهى، والباقي ربّك به أدرى!.

… لتستمرّ القصّة!.

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 27 تشرين الأوّل 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share