تعلّم الأب الياس، على غرار الرّسول بولس، أن يموت كلّ يوم!.خروجه من العالم، أصلًا، كان، على حدّ تعبير الرّسول المصطفى، لأنّ “العالم صُلب لي وأنا للعالم”!.
ولكن، غريبًا كان أمر الأب الياس!. للنّاظر إليه، في رهبانيّته، كان يبدو كأنّه لم يتنازل عن أمور كثيرة في العالم. بالعكس، كان يطلبها من وقت لآخر، ويتصرّف كأنّه يستأنس بها وينتظرها!. دونك مثلًا، من ألوان الطّعام، طلبه لطبق “المحشي كوسى باللّبن”، من بعض الأصدقاء. ثمّ السّرعة وتجاوز السّيارات، في السَّوْق، كان يستحسنها!. الخروج إلى المطاعم، أحيانًا، كان يُقبل عليه بلا أدنى حرج، مع بعض الأصدقاء طبعًا، إذا دعوَه!. لَعِبُ النّرد (الطّاولة) و”التّزريك”، أَلِفَه!. ثمّ التّصفيق والضّحك والنّقف بالإصبع كان عاديًّا عنده، في بعض اللّقاءات العائليّة أو الخاصّة. ابن أخيه ماكس، رحمه الله، وكان اسمه طوني، كان يلعب البيان. كان الأب الياس يأنس لأدائه وأخت طوني، واسمها ماريان، عندما كانت تغنّي هي وأخوها كارل. مشاوير حلب كانت تبدو ممتعةً له!. شيش الكباب مع لبن العيران، ونكات ماكس وأخباره. كان الأب الياس يفرح بكلّ ذلك، ويفرح أوّلًا بعائلة أخيه، ويضحك حتّى الدّمع، أحيانًا!.
كان يبدو، من وقت لآخر، كأنّه يحبّ “شمّ الهوا”، والصّعود إلى صلنفة، مصيف اللّاذقيّة. وسماع الموسيقى الكلاسيكيّة، وخاصّة موزار، كان أيضًا للفرح لديه. وماذا أقول عن إيملدا، زوجة أخيه مارك، الّتي كانت تنكبّ على إعداد أطايب المائدة السّخيّة، كلّما أتاهم الأب الياس زائرًا!. بإمكاني أن أسترسل في الكلام عن سلوك الأب الياس كواحد من النّاس، في أوساطهم، طبعًا دون ابتذال، ولكن، يكفي ما أوردته عيّنةً.
ماذا يعني الإقبال على حياة الفقر الرّهبانيّ، وهذا الاستئناس، حتّى التّماهي، في مجتمعات النّاس، بأمور عالميّة شتّى؟. للوهلة الأولى، يبدو كأنّ الأب الياس لم يطلّق العالم، حتّى لا نقول لم يمت عنه، بل بقي مُحبًّا للّاذقيّة وحلب وحمص والشّام وإخوته وأصحابه القدامى… في حينه، لم أفهم، تمامًا، مغزى هذا الموقف، رغم أنّي كنت أرتاح له، لسبب لم يكن واضحًا تمامًا لي، وأرى في الأب الياس انفتاحًا جميلًا!. لكن، بمرور الزّمن، أظنّني بدأت أفهم، من خلال إمعان النّظر في أفقه الفكريّ الكيانيّ!.
روح العالم، في المبدأ، يجوّف الصّلاة ويجفّف الدّموع ويبلّد الإحساس ويثقّل النّفس ويشوّش القلب ويُبهت العين الدّاخليّة ويذهب بالوقفة أمام الله… لكن، هذا كان الأب الياس غريبًا عنه!. طبعًا، لم يكن بلا هوًى. كان له جهاده الثّابت. لكنّ معالم شخصيّته الرّهبانيّة سبق لها، بعامّة، أن تحدّدت. تماسكه الدّاخليّ وثباته في عشرة الله وغربته عن العالم، كما بدت في صلاته الّتي ما فتئت تنساب انسيابًا، وفي دموعه الّتي لازمته سيّالةً بهدوء في الصّلاة، وبحرقةٍ أحيانًا، إن كان ثمّة ما يوجعه أو يوجع الآخرين لديه، ومن ثمّ هدأته ورصانته ورزانته، عندما كان إلى مَن يسأله كلمةَ منفعة، أو إلى مَن يأتيه محتارًا أو متضايقًا أو موجوعًا، أقول كلُّ هذا أبرز الأب الياس، وبقدر ليس بقليل، إنسانًا متمرِّسًا في الانقطاع عن العالم، وفي الفقر بإزاء العالم!. هذه مرحلة، في جهاده، عبر بها، ثمّ تخطّاها إلى شيء آخر جديد. ما هو؟.
كان الأب الياس يُدرك، في روحه، أنّ له ضعفاته، لكنّ هذه الضّعفات لم تُثنِه عن تعاطي العالميّات، كواحد من النّاس، ولكن على مسافة داخليّة منها. كان يعي أنّه واحد من القوم ومختلف عنهم في آن، وهكذا كان، من جهته، أكثر الّذين كانوا يلتقونه!. كانوا يُعجَبون به ويأنسون له. قلّما سعى إلى صدم أحد بحضوره أو بسلوكه، ولو أثار التّسآل فيهم. بالنّسبة إليه، النّسك موقف داخليّ يعبّر عن ذاته بكيفيّة تعاطي شؤون النّاس، طبعًا المشروعة والمقبولة والنّافعة، لا بالانقطاع لا عن النّاس ولا عن أماكنهم ولا عن شؤونهم…
بين النّاس، كان الأب الياس كالنّاس، لا يثقّل بنسكه على أحد. فقط يحفظ، ويوحي لهم، كما يُفترَض بهم، هم أيضًا، أن يحفظوا، إذا كانوا مؤمنين، الحدودَ الّتي رسمتها الكنيسة.
صحيح أنّه كان يأكل طبق الكوسى باللّبن كأنّه شغوف به، لكنّه، في الحقيقة، كان يأكل قليلًا. لا يتشاره. أصلًا، عوده كان دليله. كان الأب الياس رقيق العود، مُمسِكًا بعامّة. يتكلّم عن الأكل أكثر ممّا يأكل، ويشكر أكثر ممّا يهتمّ بملء معدته، ويفرح ليفرّح الآخرين أكثر ممّا ينصرف إلى قضاء شهوة لديه!. أداؤه، بالأحرى، لم يكن من أجل نفسه، بل من أجلي، أنا، لأنّي كنت أرافقه، ليعلّمني ويؤنسني، وكذا من أجل الّذين يلتقونه. إذا صحّ التّعبير، قلت: ما كان يأتيه، على هذا الصّعيد، بالأحرى، كان من إرادة محبّة لا من هوى قلب!. لذا، كنت تراه، بعد أكلة دسمة، مثلًا، فيما يذهب الآخرون إلى راحتهم يجلس هو إلى طالبٍ الجلوسَ إليه ليسمعه ويعينه ويبكي معه!. الأمر عينه يُقال في سماع الموسيقى الكلاسيكيّة. كان يشاؤني أن أتثقّف بها، أوّلًا، وأن يفرّح قلوب الآخرين. لذا، سمعته، بعد سنوات، يقول لي: ليس حسنًا أن يسمع المرء، إذا كان مستغرقًا في صلاته، الكثير من الموسيقى، لأنّها تشوّش عليه!.
من هنا، استعمالي لفظة “أداء”. ما كان يفعله، في إطار ما ذكرت، كان، بالأحرى، لديه، كغبار على الوجه يغسله صاحبه بعد فينة، فيكون كأنّه لم يكن!.
هذه المعادلة بين النّسك الدّاخليّ والانفتاح الخارجيّ الأصيل على الآخرين، هي الدّرّة الّتي عمل الأب الياس على بلورتها والبلوغ بها حدّ السّموّ!. الرّهبانيّة لديه، لأجل المفارقة، لم تكن، يومًا، انقطاعًا عن العالم، عن النّاس، عن هموم القوم، بل عن روح العالم!. بلى، بالمحبّة الحقّ، يقدر المرء أن يُمَيِّزَ، في كيانه، بين العالم، وروح العالم!.
أخبرني أخ أتى مرّة لزيارة الدّير، قال: كنتُ على سفر، مرّةً، وأردت أن آخذ بركة الأب الياس قبل مغادرتي. وصلت إلى الدّير فقالوا لي إنّه في خلوة. قلت: حسنًا، فقط اجعلوا قصّاصة ورق لديه قولوا له فيها إنّي أسأله الصّلاة. فمرّروا ورقة من تحت الباب وأعلموه بذلك. فما كان منه إلّا أن فتح الباب وطلب من أحد الرّهبان أن يصعد بالزّائر إليه. فلمّا حضر ذاك الأخ أمامه، بادره، بعد أخذ بركته: آسف، يا أبانا، أنّي قطعت عليك خلوتك!. فأجابه الأب الياس: أنت لم تفعل، يا بنيّ، لأنّي أنا في خلوة في حضورك أيضًا!. هذا كلام كبير!. كان الأب الياس يسعى لأن يحمل خلوته في صدره، سواء حدث أن كان بين النّاس أم على انفراد!.
لَعَمري، الأب الياس، في رهبنته، كان السّيّدُ قِبلتَه، في كلّ أمر. الرّبّ يسوع كان حاضرًا، في آن، لدى أبيه وبين النّاس!. هذه حاجة الرّاهب الحقّ، في الكنيسة، لا سيّما في الزّمن الصّعب!. كان الأب الياس يعي أنّه ليس لنفسه بل للكنيسة، والكنيسة موجوعة وبحاجة لا فقط إلى خدّام، بل إلى خدّام من فوق يحفظون الوِصال بربّهم، ويبذلون أنفسهم، في آن، من أجل العالم، ويشكّلون معًا نماذج تُحتذى، على غرار بولس الرّسول الّذي هكذا تكلّم: كونوا مقتدين بي كما أنا أيضًا بالمسيح!.
وما كان همّ الأب الياس مقتصرًا على أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة وحدهم. هؤلاء، طبعًا، كان لهم موقعهم الخاصّ لديه، لكنّه كان مقتنعًا تمامًا أنّ رجل الله، أو قُل صورة رجل الله، هو أنّه رجل لله، والخلق كلّهم عيال الله!. ليس لابن الإنسان مكان يسند إليه رأسه، ليس فقط لأنّه من الآب أتى وإلى الآب توقه لأن يذهب، بل لأنّه ليس لإسرائيل وحدها جاء بل للسّامرة كذلك وللرّومان والشّعوب والأمم، إلى أقصى الأرض!. “ولي صبغة أصطبغها وكيف أنحصر حتّى تُكمَل؟”(لو12: 5).
حنان الأب الياس في تعامله مع العامل أبو أحمد وعائلته، العاملين في الدّير، لم يفرق في شيء عن حنانه بإزاء أحد الخاصّة لديه!. في المسيح أنت لا تتعاطى الأمور باسم المسيح فقط، بل أوّلًا بروح المسيح!. نجاسة الرّومان في عين اليهود لم تمنع الرّبّ يسوع من أن يشفي خادم قائد المئة ويُكبِر إيمانه كما لم يُكبر إيمان أحد في إسرائيل!. وغربة الكنعانيّين عن اليهود واحتقار هؤلاء لأولئك، لم تمنع الرّبّ يسوع من أن يُخرج الشّياطين من ابنة المرأة الكنعانيّة، كما عظّم إيمانها تعظيمًا كبيرًا!. وإن بدا كأنّه حقّرها، عندما قال لها: ليس حسنًا أن يُلقى خبز البنين للكلاب، فما كان ذلك إلّا ليكشف عمّا في روحها من اتّضاع، وحتّى يعي المتكبّرون من قومه أنّ المتّضعين وحدهم هم المقبولون عند ربّهم، أمّا المتكبّرون فرجس لديه!. وماذا أقول عن المرأة السّامريّة، عند بئر يعقوب؟. لهذه المرأة الغريبة عن إسرائيل، الخاطئة سيرتُها، كشف لاهوته، ليعلّم شعبه أنّه إنّما جاء إلى الخطأة لا إلى المدّعين أنّهم أصحّاء وأبرار!. ليست الخطيئة ما يمنع النّاس عن ربّهم بل البِرّ الذّاتيّ، الّذي هو الخطيئة بامتياز!…
للأب الياس، وحده السّيّد كان خطّ سيره!. كلّ رهبنة ونسك يعلق بشباك الأصول والقواعد والتّرتيبات دون روح التّوبة إلى الألفة والمودّة الإلهيّة، تخنق أصحابها والقادمين إليهم ويضربها التّكلّس الكبير!. إن لم تكن الرّهبنة لتحمل آلام الكنيسة فوق آلام أصحابها فلا قيمة لها!. من أجلهم أقدّس ذاتي لا من أجل ذاتي!.
في أوّل قدوم الأب الياس والإخوة إلى الدّير، وجدوا بين الأوراق المهجورة كرّاسًا خُطَّت على صفحته الأولى هذه الكلمات: هذا الدّير احترق لأنّ رهبانه كانوا بخلاء!.
البخل أن تُقفل حشاك عن الله وعباده!. هكذا من اليوم الأوّل تعلّم طالبو الرّهبنة في الدّير أنّ الطّريق هو أن يكونوا مبذولين بالكامل من أجل الله والقريب!. هذه هي الرّهبانيّة المكمَّلَة بروح الرّبّ!. هذه كانت رهبانيّة الأب الياس!…
… لتستمرّ القصّة…
الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 24 تشرين الثّاني 2019